الشيطان يحمي غاباته
في الأساطير الإغريقيّة ـــــ الرومانيّة آلهة للغابات. في الخرافات الفرنسيّة التي ربّما تستمرّ في بعض نواحي الريف، أن الشيطان انتقى الغابة ليستودعها كنزه. الجرمانيون داوموا على تقديس غاباتهم حتى أخضعهم شارلمانيه في القرن الثامن للميلاد، فكان أول ما أقدم عليه تدمير أحراجهم، وقد كانت أهمّ معابدهم. ويرى مفسّرو الأحلام أن ظهور الغابة في المنام يعني الرغبة في الأمان والتجدّد، والإيجاز يختصر فيقول: الغابة أُم.
في الهند ينسحب النسّاك البوديّون إلى الأحراج للتأمل. أفريقيا السوداء كرّمت أشجارها وأدغالها حتّى تَدَفّقت جحافل الاستعماريين عليها فنهبتها ذَهبَاً وماساً وشجراً وكلّ شيء كريم وحيّ.
إلى جانب الغابة المقدّسة، كغابة الأرز في لبنان، هناك الغابة الرجيمة، السخاميّة. ظلالها ودياجيرها وحفيف أوراقها وغموض أوضاعها توحي للكثيرين القلق والريبة. بعضهم يسمع في حفيف الأوراق همس أرواح الموتى.
لم ينعم العرب بمثل الثروات الحرجيّة الأفريقيّة والأوروبيّة والأميركية وخرافاتها، لكن الصحراء لم تبخل عليهم: غالباً ما كان المسافر يصادف ليلاً عند ربوة أو خَسْفة عفريتاً أو عفريتة يجاذبانه الحديث.
والأساطير الجاهلية، الحافلة بشتى الجانّ وبقرية عبقر، مغارة لهواة الأساطير لا تزال عذراء لم تستثمر، بل عوملت دوماً بفوقيّة أو تكفير أو استهزاء.
أشرنا في البداية إلى خرافة تعتقد أن الغابة مستودع لكنز الشيطان. لهذه القصة تتمّة، وهي أنه إذا اتفق لأحد أن عرف مخبأ الكنز وحاول نبشه لا يلبث في يوم أو أسبوع أو شهر أن يلقى حتفه. لمخازن الشيطان حماية تقتصّ من المعتدين. ليس لغابات الخير من يحميها.
العالم يخسر غاباته، يقتل أمهاته، وليس من يردع الجزّارين. لبنان يُحرَق ويباد ويباع ويُشرى ولم يعد يظلله غير الإسمنت. أخذ العمار المتوحّش الأشجار وأخذ السماء. ليس للغابات والفسحات والعراء مُن يدافع عنها. الجميع، المالكون والسلاطين، برسم البيع. لم يعد هناك متسع لقبر. ولم يعد في القبر متسع لنعش. الصناديق تُشقَع بعضها فوق بعض مثل الكراتين. وعندما تمتلئ الحفرة يأتي الحفّارون ويتلفون نعوشاً كي يتسع المدفن لنزلاء جدد.
وحشيّة الحياة تكملها وحشية الموت. كانوا يوارون الموتى الفقراء في ثرى المقبرة العامة، وهي تسمية مهذّبة لمكبّ الجثث. اليوم، باستثناء الأثرياء والسلاطين، تكاد كلّ مدافن لبنان تصبح مقبرة عامة. لم يعد رفات هذا الشخص رفاته، لم يعد هذا التابوت ذلك التابوت. لا أحد يستطيع أن يزور مثوىً لعزيز لأنه لن يكون متأكداً من أن عزيزه هو المقيم في هذا المثوى. أيّها الراقدون تحت التراب لم تعودوا راقدين تحت التراب.
من ليس له مخدّة ليريح رأسه في النوم الأخير يقيم بين ضباع. من ليس بين بيته وبيت جاره فسحة متر واحد لتسريح النَّفَس ليس له بيت ولا جار بل زنزانة وعدوّ في زنزانة أخرى. من ليس له شجر لا صديق له. من ليس له فضاء لا إله له.
الغابة في الليل تُرعب، ترعب الطفل أكثر مَن ترعب، ولكن قلب الإنسان، هذا الكائن الذي يبعثر المدافن ويغتال الموتى ويرمي عظامهم في المكبّات، قلب همجيّ كهذا يحتاج إلى هذا الرعب. النهار كثير عليه. من لا يقدّس محطّة الأموات هو هو الميت. القاتل يقتل ضحيّته مرّة، مقتحم المدافن يعيد تنفيذ الجريمة ما بعد الموت بأبشع من الموت، يَقْتل الذكرى ويلطّخ الطيف. يسفك دم الملائكة.
ليتنا نُهبّط الكثير من بلدنا لننشئ حدائق. كثير من بلدنا قمة في البشاعة. ليتنا نُهبّط الكثير من بلدنا لننشئ مدافن، مدافن كبيرة فسيحة خضراء، تعوضنا عن مخانق بيوتنا، وتعطينا بعض ما حُرمنا إيّاه في حياتنا المضطربة: سكينة القبور.



الفنّان وظلّه

ندّعي أن الفنّ أهمّ من الفنان، هل هذا صحيح؟ أم عكسه صحيح؟
حَسَب الفنان وحَسَب فنّه. قليلة هي الحالات التي يتماهى فيها الفنّانون مع فنّهم، وإذا حصلت لا تكون دائماً مضمونة النتيجة.
لو كان شوبان في حياته أكثر مرحاً لكنّا استمتعنا بحزن موسيقاه أكثر. لو شابهت ألحان محمد عبد الوهاب شخصيّته اليوميّة لتبسّمت وخفّفت من انقباضها. بعضهم هو مجرّد فنّه، ولا انفراد لشخصه، لطباعه. عاش باخ للموسيقى وحدها، واصلاً ماضيها بمستقبلها، مخلّفاً مؤلفات بلا نهاية، قداديس وأغاني ورقصات وألحاناً يمكن وصفها بالموسيقى المُطلَقة. وغالباً حين يحكى عن موسيقاه لا يُذكر شيء يُذكر عن حياته. ناسك الموسيقى الأكبر. ولعلّه لهذا لم يتبوأ مركز النجوم، رغم أنه أبو الموسيقى الكلاسيكيّة كما نعرفها. عظيم من غير نجوميّة سينمائية. جبّار بلا ظلال. مُعلّم بلا حكايات مأسويّة كما لموزار وبيتهوفن ولِيسْت وتشايكوفسكي. يقيناً لو عُرفت شخصيّته البشرية عن كثب، بشغف، بتنقيب، لاكتسبت موسيقاه أبعاداً في خيالنا أشدّ حرارة. الفنّان مهمّ كفنّه، لا نقدر أن نعرف مَن أبو الآخر، الإنسان في الفنّان أم الفنّان في الإنسان. بلى، شخصية الفنان الحميمة وخصوصياته جوهرية في تقديم فنّه، من نوع الجوهر الذي قد يشكّل خطراً على نفسه.


■ ■ ■

الإفراط في تذويب الذات في العمل الفنّي فضيلة كما هو الإفراط في الترهّب والنسك فضيلة، ومثلهما أيضاً هو جريمة. جريمة كما هي القداسة القصوى جريمة ضدّ الحياة الطبيعيّة، جريمة بحقّ العاجزين عن الاقتداء بها، وهم الأكثريّة الساحقة، وهذا العجز الذي يفرض على الأكثريّة الانبهار بالقدّيس، يفرض عليها أيضاً، أو على بعضها، الإحساس بالشذوذ حياله: شذوذها هي أو شذوذه هو.
ما ينأى عن معاناة البشر اليوميّة يُولّد الخشية وأحياناً النفور، كما قد يولّد لدى النفوس التقية التوّاقة إلى الغيب خصوصاً، شهوة التشبّه.
لكنّنا ابتعدنا، فلنعد إلى الفنّ، إلى الأدب والفكر والفنّ. قد يحتاج الأديب والمفكّر والفنّان إلى الصومعة ليكتب، ليتأمل، ليهيئ عمله، ليرتاح، لكنه لا يستطيع اقتلاع نفسه من الدنيا والادعاء أنه حيّ. أهل الرسالة والموهبة والخَلْق شجر مجذَّر ولو مكرهاً، ولو ملعوناً، ولو في صحراء. أحياء ولو في الجحيم. هُمُ الأحياء. سكوُنهم صَخَب الآلهة. الفكر، الغبار، الوحول، الدموع، الانعصارات كلّها خبزهم اليومي. صومعة الفكر والأدب والفن هي دماغ الفنان والأديب والمفكر. محرابه روحه لا هندسة المعماريين.
هذه الروح، هذا الدماغ، بل هذه الشخصيّة بحذافيرها ورذائلها ومباذلها وانحرافاتها وتجاويفها ومخاوفها وتعاساتها وحيلها وحبائلها وخفاياها ومفاتيحها، هذه الشخصيّة لا تنفصل عن عطائها.
ومن أعجب ما يكون، بل من أخطر وأبلغ ظواهر الطبيعة، أن هناك فنّانين وأدباء ومفكّرين يبدو يقيناً وبكل البراهين أن عطاءهم لا يمكن أن يكون أجمل منه، ولا أعظم سحراً وتأثيراً وإبداعاً. ولمن لا يعرف أشخاصهم، هذا صحيح. ويمكن الجزم دون مبالغة أن عطاءهم أروع بما لا يُقاس من أشخاصهم.
ومن أعجب ما يكون، بل من أخطر وأبلغ ظواهر الطبيعة، أن بعض هؤلاء، إذا عُرفوا عن كثب، إذا دُخل إلى شخصيّاتهم في صميم ظلالها، في عرين عريها، لظهر كوضح النهار أن شخصيّاتهم أجمل من أجمل أعمالهم.
عُرف مثل هذا عمّن قَصّرت أعمالهم عن شخصيّاتهم. عُرف عن عاديين وأقزام، عن فاشلين وثانويين. لم يُعرف العكس. لم يُعرف عن الخالدين، عن الأنبياء والنوابغ والظواهر، لم يُعرف عن النجوم الأساطير.
مع أنه حقيقي.
ثمّة أبواب مَهيبة تُخفي حقيقة العظماء.
ظلّ رهيب يستولي عليهم.
نعمة السماء تقيم توازنها مع لعنة الأرض.



بين لوحتين

لوحة الجوكوندا تبدأ حيث يقف الكلام. في «العشاء السرّي» بلبل دافنشي العقول بإلقاء ظلال الالتباس على الأشخاص. مَن هذا؟ مَن ذاك؟ هل هذا امراة؟
إلخ... وكالعادة استُغلّ الالتباس للطعن على المسيح، وكالعادة شهق هواة الفضائح وجنود الشماتة. وكالعادة، عادة الكراهية، عادة التعصب، عادة الرغبة في التحقير لإرضاء حقارة المحقّر، كعادة الأذكياء في ترويج التلطيخ. عن طريق الوقاحة والمزيد من فجور الوقاحة، يصبح التزوير الجديد موجة جديدة وتحفر ما استطاعت في أساس البناء.
«العشاء السرّي» ليست هي تحفة دافنشي بل تحفته «الجوكوندا». السرّي السحري الصوفي أبعاد تجد أرضها الخصبة عند ميكل انج ورافائيل، وعند سواهما من مغموري النهضة. وبينما يُغنّي الحسن أناشيده على مداها الرقراق لدى رافائيل يعود لدى دافنشي إلى دائرة الالتباس.
إلى الإبهام والطلسم. سرّ هذه اللوحة الصغيرة موجات عيني الموناليزا. جفونها وغمام جفونها. الغشاوة الصافية، كأن تقول العاصفة النقيّة.
الغشاوة في عينيها والغشاوة في عيون الذين يتأمّلونها. عينان مبطنتان وجفون باطنيّة.
وجه ملتبس ما بين شاب مخنّث وصبيّة قوية.
امرأة «جانبية» تنظر إلينا وجهاً لوجه. طيف امرأة لم نحصل عليها، لن نصل إليها.
ابنة أبي الهول وقد تقمصت ممثلة مَسْرح.
قرويّة لعوب تعرف أن كلّ جاذبيّتها في تمنّعها.
راهبة حسناء هاربة مؤقتاً من الدير.
دافنشي الجبّار ودافنشي المراهق المعقّد.
«الجوكوندا» قمّة ليوناردو لأنها قمّة البساطة في قمّة اللغز، ولأن الالتباس فيها ليس تلاعباً بل انعكاس طبيعة هذه أصالتها.
ولأنها لا تروي حَدَثاً بل تُصوّر روحاً.