لا أعرف ماذا أكتب. لا تكتب، تقول لي. ماذا أفعل إذاً؟ أبيع الماء والكهرباء؟ ماذا أفعل وأنا ليس في يديّ مسدس ولا رشّاش بل أمامي ورق أبيض لا يحتمل غير قلم؟كيف نرود الآفاق المجهولة ونحن قانعون؟ ونحن نبذل قصارانا لنبتكر المبرّرات للبشاعة والضحالة؟ نكذب إنْ قلنا إنّ الشجاعة لم تفارقنا وإنّنا ما زلنا متهوّرين. منظر سيّارة مسرعة يلقي في القلب أشدّ الرعب.
مَن يبطّن لنا الجدران والنوافذ فلا يعود ضجيج بيروت يقتلنا؟ مَن يأتينا بالموسيقى العازلة؟ لم تكن هذه الحياة لتكون حياتنا. الطفل، حين يلاعب يديه في مهده، تفرّ منه الحيويّة ويمور أكثر من طبيعة كاملة. ما أكرم الحياة لمَن لم تضجر منهم بعد!

■ ■ ■



كنتُ أدعو إلى التجديد. صرتُ آنسُ إلى الرواسم والتقليد وشخير اللغة. أشعر هناك أنّي محميّ، أنّي لستُ تحت رحمة مفاجآت الخَلْق. صرتُ أرى حتى جمال الخلق اعتداء. لماذا تهترئ الأعصاب كتفّاحةٍ قديمة؟ لماذا ينكر الناس عهودهم ويرتدّون على أعقابهم؟ لماذا يلوذ المرء بمَن كان يهرب منهم؟
لا تحرّضني على عدم الكتابة. قد أستجيب فوراً. في ما مضى توقّفتُ نحو عشرين سنة، لكنّ ذلك كان بدافع الحبّ. لم يعد هناك حبّ. امّحَتْ الوجوه. خسفت اللحظات. التوقّف اليوم أحقّ، وهذا الأحقّ سيُحكم إغلاق النعش. أفضّل إغلاقه بطرف القلم.

■ ■ ■



هل أنا مع بشّار الأسد أم ضدّه؟ أنا مع قرّائي وقارئاتي في سوريا.

■ ■ ■



أكره استشهاد الأدباء ببعض الأسماء المرجعيّة كأنّ أصحابها أساتذة مدرسة وكأنّهم هم يعودون إلى الصفّ. يأتي نيتشه في طليعة الذخيرة المرجعيّة. الرجل الذي انتهج حياةَ الترهُّب للفكر والكتابة والابتعاد بات له شعوبٌ من الأبناء والأحفاد. في الماضي كان يؤخذ على البريطاني أنّه بعد العبارة الثانية عن الطقس لا بدّ أن يسألك أيّ المسرحيّات الشكسبيريّة حضرت. اليوم، كلّ كوكتيل يرتاده «مثقّفون» لا يمكن أن ينتهي دون أن يكون نيتشه حاضراً. اللّهُمَّ زِد وبارك. ودع المتحدّثين يقرأون، علّ قراءة نيتشه تثني معجبيه عن حديث الصالونات والذي كان نيتشه أبعد الناس عنه.

■ ■ ■



بدون سبب، حضرتْ إلى ذهني صورةٌ مفترضة للثلاثي أمين عام الحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، رئيس الاستخبارات السورية عبد الحميد السرّاج، وأمين عام الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو.
الثلاثةُ في مكتب الثاني على الأرجح، ذات يوم من أيام 1959، وقد قرّر السرّاج وبكداش التخلّص من الحلو. معلومات أخرى تؤكد أن بكداش كان مسافراً. كانت وراء الغضب على الحلو أسبابٌ عديدة، أبرزها استياء الاتحاد السوفياتي من معارضته لتأييد الشيوعيين قرار تقسيم فلسطين.
ذهب الحلو ضحيّة القتل ثم ضحيّة تذويب جثّته بالأسيد لكي لا يتبقّى منه سوى بعض الكتابات عنه.
في حينه لم يكن أحد يتجرّأ على محاسبة السرّاج. مع أنّ الزمن كان زمن الوحدة بين مصر وسوريا وعبد الناصر في أوج سلطته. هناك أمور يعتبرها الرؤساء أقوى من الجريمة وأغلى من الدم.

■ ■ ■



ناس يتغذّون بالكافيار الأسود وناس يُذوَّبون بالأسيد.
لا وَسَط في العقائد.

■ ■ ■



«ما لن يشيخ أبداً، يقول بول فاليري ويشدّد على كلمة أبداً، هي قصيدة «المركب السكران» (لرمبو) ونحو المئة جملة من «الإشراقات»، هي «محاورات» إدغار آلن بو (وتقريباً مجموع الباقي) هي «أوريكا»، لأنّ هذه الآثار منبثقة من جوهر الروح الجمالي، لأنّها مخلوقة، مسحوبة، منتزعة من الأحشاء الكونيّة ومغطّسة في الماء البارد لتقوم منه صافية (...) لقد ولدت كلّ هذه، لقد صُنعت لأفواه شخصيّات دافنشي المماثلة، في مشاهد بيتهوفن الحاسمة».
أكرهُ الكاتب (وغالباً الشاعر) الذي يضعك لا في نهاية السطر بل في نهاية كلّ شيء. أكرهه ولا أحبّ غيره.
ليس تغيّر الفصول ما يتحكّم في الطقس بل هي اللغة. هي ما يفتتح وهي ما يختم.

■ ■ ■



لا تصدّق كاتباً يقول لك «لا أعرف ماذا أكتب». لا تصدّق الأحياء فالحياة تَلاعُب. لا يَصدُق غير مَن مات عن حياته وأخذ يخاطبك بفراغ النوايا.
خذ من كعب ردائه شيئاً للتبرُّك.

■ ■ ■



تخبرني صديقتي عن شقيقها ابن الاثنتي عشرة. كيف يسكنه الخوف من كلّ شيء. لا يلعب مع أحد. تفزعه السيّارات. يفزعه الرعد. لكنّه يضحك بكلّ عينيه، بكلّ كتفيه، بكلّ وجهه. ذكّرني بطفولتي. كنتُ مثله أخاف من كلّ شيء، من الراهبات ومن التلامذة، من الرصيف ومن الطريق، من المطر الذي لا أعشقه إلّا وأنا مختبئ وراء النافذة. لم أكن آمَنُ إلّا لظلام السينما. ولولا قرفي من مشهد التقبيل لطلبتُ من أهلي أن يستأجروا لي ركناً دائماً في الصالة، التي لم أكن أغادرها مع شقيقيّ إلّا وأنا أبكي.
يا شقيق صديقتي كم أنت على حقّ! لا تثق بغير شعورك. ونصيحتي لك أن تتّجه صوب الفنّ، فالفنّ وحده يصطفي أخياره بين الخائفين.



عابــــــرات

بيني وبين الفعل عالمُ الفكر.
لا أحسنُ القفز من غيومه إلى الأرض.
مع الوقت صرتُ أتّكل على الفكر لكي يقوم بالفعل.
بفعل الفعل.
ولم يحدث لي أيّ فصام، بل ما حدث هو أنّ الفكر صار يؤدي إلى الفعل.

■ ■ ■



خبث القادة. هل يتصرّف هؤلاء مع زوجاتهم كما يتصرّفون أمام الشاشة؟

■ ■ ■



من أغرب الظواهر الفرق الجمالي بين المرأة والرجل لمصلحة المرأة والفرق الجمالي بين الأسد واللبوة لمصلحة الأسد. اللبوة شكلٌ منقوص، كالرجل. الأسد جماله كالمرأة. المرأة طبيعيّة بوظائفها فقط. خارج هذه الوظائف، في المدى الإغرائي الرغبي الإيحائي، هي احتواءٌ للطبيعة وعبورٌ لها وللعقل.
هنا تتعذّرُ المقارنة بينها وبين الأسد.

■ ■ ■



بالتّتابع، يجب أن تصل البشريّة إلى وقت تصبح فيه المرأة غير مشابهة للرجل في الوظائف البيولوجيّة بشيء. تحريرها من الحاجات المقرفة والمذلّة. يكفيها الحَبَل، إذا كان لا بدّ منه.

■ ■ ■



تقاومين همسك فيصبح هتافاً.
تقاومين هتافك فينقلب صمتاً،
والصمت جمراً،
والجمر انفجاراً،
والانفجار فتافيت.

■ ■ ■



يفضّل الحبّ أهل الخوف على أهل الجسارة لأنّ الأوّلين يهربون من الماضي ويفزعهم المستقبل، والحبّ يقطع لهم طريق الاتّصال بالزمنين.

■ ■ ■



الشعراء! إنْ كذبوا ماتوا وإنْ صَدَقوا ماتوا!