نحن (العرب عموماً) نتذمّر كلّما قرأنا أو شاهدنا يهوداً يستشهدون بيهودٍ ويعلون شأنهم حتّى لتبدو الحضارة، لمَن لا يعرف أو لمَن يُغْسَل دماغه بسهولة، صناعة اليهود وحدهم. ولكن هل انتبهنا إلى كوننا نحن المسيحيّين العرب غالباً ما نعظّم شأن التنويريّين في عصر النهضة، وغالبيّتهم مسيحيّة، وبالكاد نتذكّر، مثلاً، مساهمات جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده؟ وعندما نعرض للدور المهمّ الذي لعبه مسيحيّان في القرنين التاسع والعاشر هما حُنين بن إسحق ويحيى بن عُديّ، ألا ننسى أحياناً دوراً بالغ الأهميّة لعبه الوزير الفارسي جعفر البرمكي الذي تفوّق على أقرانه في الغوص على العلوم القديمة في شكلها الفارسي والهندي والبابلي بصورةٍ عامة، وشكلها الإغريقي واليوناني بصورةٍ خاصّة، كما ينوّه ماجد فخري في مقدمة كتابه: «تاريخ الفلسفة الإسلاميّة»؟
لا شكّ في بروز المسيحيّين العرب أدبيّاً وصحافيّاً نهايات القرن التاسع عشر ومطلع العشرين حتّى أواسطه وبدء ثلثه الأخير. ولا مبالغةَ في وصف كثرتهم بالطغيان، لا سيما في لبنان. ما العمل لتفادي الظهور كنخبةٍ عنصريّة؟ الحقّ أنّ المسلمين لم يظهروا إلّا قليلاً جدّاً ضيقاً بهذا الطغيان، فغالباً ما أقرّوا به واقعاً شرعيّاً وحاولوا محاكاته والاندماج فيه.
لقد بدأ الوضع يتغيّر منذ اندلاع حرب 1975. بعد شعراء الجنوب وعبّاس بيضون ومحمد العبد الله وشوقي بزيع، أصبح الطغيان لأدباء الشيعة ومفكّريهم كوضّاح شرارة وأحمد بيضون. سوف تحتاج هذه الحقبة إلى تأريخ في العمق وإلى مقارنتها بما قبلها. وفي النهاية لن يكون حسبانٌ إلّا للأدب والفكر ولا طغيانَ لسوى الخَلْق في معزلٍ عن الخنادق.





«هيدي القضيّة تَبَعْنا»
لفظة «هيدا» الموضوع، «هيدي» القضيّة، اشتهر بها بشير الجميّل: «هيدي القضيّة تَبَعْنا». يواظب عليها الشيخ أمين وابنه سامي. (الشيخ أمين يلفظ التاء طه. «نحن نعطبر أن...»). منذ إميل لحّود الأوّل نائب الثلاثينات والأربعينات وحميد فرنجيّة وبشارة الخوري لم يشتهر الساسة الموارنة بمتكلّمين. كانوا بالكاد يخلّصون أنفسهم بالدارج. وعلى العموم لم تسعفهم طبقات أصواتهم. إذ كانت إمّا مخنوقة كما عند كميل شمعون وإمّا «رفيعة» مثل ريمون إدّه وإمّا مبحوحة وانفعاليّة مثل بيار الجميّل. من جهة التلفزيون يكثر طوني خليفة من استعمال هيدي وهيدا مع الحيرة في اختيار الألفاظ والتردّد في إنهاء الجملة حتّى يتعب المشاهد نيابةً عنه. هذه علاجها التمرُّن فضلاً عن إعداد ما يمكن إعداده كتابةً. برنامج «للنشر» جيّد وجريء.





التوراة
الإخضاعات الفرويديّة والنفسيّة عموماً لم تقدّم ولم تؤخّر في تقييم مطالعاتي للتوراة. أعتقد أنّ من أسباب دوام تأثير هذا الكتاب تعامله مع أركان كياناتنا ومع خفايا القاع، ومع العنف والتوبة بلا أقنعة ثقافيّة. كلّ قارئ للتوراة هو مشتبك مع إلهها وأنبيائها وفي الوقت نفسه يظلّ يشعر أنّها مكان الجريمة الذي يعود إليه القاتل شاء أم أبى.
مهما يكن الله نرجسيّاً في ذهن الأنبياء، أعطاه داود ما يزيد ويفيض.
اليوم تكتشف وجهاً جديداً لمزمورٍ يفتح لك باب الإياب إلى الآب. غداً يكتشف الآب أنّه يضيع.
تشبه التوراة حقلاً يتلاقى فيه الأعضاء في بداية مسالمة وبألوان الفجر الجبليّة، ولا أحد يعرف بالتمام مَن الذي دعاه، ولا ما سيفعل بعد أن ينتهي من اللقاء.





نزوح الآلهة
بين الروايات الوثنيّة القديمة واحدة تقسم الخلائق الروحيّة أو الجنّ أربع طبقات، مجانسةً مع عناصر الطبيعة الأربعة: السِلْف، وهو كائنٌ هوائيّ، السمندل للنار، حوريّات البحر للماء، والأقزام (أو العفاريت) للتراب. وذهب بعض اللاهوتيّين المسيحيّين الغربيّين قبل أربعة قرون إلى القول إنّ هذه الكائنات الخرافيّة كانت في الأصل آلهة وإنّ هذه الآلهة لم تكن، لسبب أو لآخر، منخرطة في الصراع الذي دار بين الملائكة والشياطين، فلم يلحقها أذى، واستمرّت على وجودها بعدما أمسى ثانويّاً، وعندما تخلّى البشر عن عبادتها اكتفت برعاية الحيوانات الأليفة والمفيدة، بينما بسطت الشياطين سلطتها على البهائم المفترسة أو المنحطّة.
أمّا بعد المسيح، فيعتبر أولئك الشُرّاح أنّ الآلهة الكبار أو أنصاف الكبار نزحوا عن الأرض إلى الكواكب، منازلهم الأصليّة. هذا التأويل ساد القرون الوسطى، وبقوّة لدى أهل القِبالة ولا سيما في أوساط الفلكيّين والمنجّمين والخيميائيّين والأطبّاء. وهو مستمرّ إلى اليوم في الغرب على التقليد الإغريقي (السومري الكلداني أساساً) لعلوم الفلك أو على التقليد الصيني أو الهندي أو سواهما في حضارات أخرى.





العريس مهدي ياغي
لا يصدّق المرء أنّ هذا الشاب استشهد. رأيتُ وصيّته على مواقع التواصل الاجتماعي. الشاب مهدي ياغي. الضاحك الوسيم. أبى أن يضخّم أحد استشهاده وناشد أمّه الهدوء.
من أوّل وصيّته لآخرها وهو يضحك ويحاول جهده إضحاك مشاهديه. هل يموت فارسٌ كهذا؟ ألا يقهر الضحك الموت؟ ولماذا إذن نُمجِّدُ الضحك؟
يضحك ويعاتب نفسه على الأخطاء اللغويّة. يا مهدي أنت ذاهب للاستشهاد أم لاحتفال؟ لو تعطي كلّاً منّا نحن الجالسين وراء مكاتبهم ذرّةً من شجاعتك! ذرّةً من استخفافك بالموت! ذرّةً من عطفك الضاحك على الباقين أحياء!
هذا شهيدٌ عريس. بصرف النظر عمَّن يقاتل. لا تجوز التعزية به بل التهنئة. وزلغوطة على قَدّ بعلبك.





ضجر
عرفتُ ضجر أثرياء. يحاربونه بأرخص الأسعار. كأس، كتابة مذكرات، تلفونات، استمتاع كاذب بالموسيقى، ولائم كأنّها مباريات للثقلاء.
ثم النوم.
عرفت ضجر فقراء. أشدّ المدمنين. يحرمون عيالهم وأنفسهم لقمة العيش ليشحذوا شمّةَ كوكايين. ينفقون طاقاتهم الجنسيّة كمَن يسبح كي لا يغرق أو كي يغرق. يلعبون القمار مثل كبار الملياردريّة ووحدهم يليق بهم تبذير ما ليس لهم بل ما استدانوه.



اغتربوا أيّها الأدباء
على كلّ أديب لبناني أن يهرب إلى أميركا وأوروبا والآن إلى الصين والهند واليابان ليعيش هناك ثلاثة أرباع حياته ويقيم علاقات وتقام له مقامات ثم يعود ليموت في لبنان وسط الهالات. والأوفق أن يعود ميتاً خالصاً حتّى لا يغلط إذا سأله صحافي عن موضوع وأجابه المغترب المسجّى جواباً بلديّاً مسطولاً.
الأكاذيب المحليّة مكشوفة والأصاديق المحليّة لا تملأ العين. البلدان الصغيرة بحاجة إلى أحلام ضخمة. عد لهم بحقائب ألف ليلة وليلة.
ومت برّاً قبل العودة. سيكون نقل رفاتك احتفالاً مقدّساً لن تقوم منه لا حيّاً ولا ميتاً، والمولى راعيك.



عابــــــرات


الرائحة: بدأوا يستعملون بثّها في حفلات الغناء وراح الجمهور يتباوس. هنا الجمهور (ولا سيما النساء) محضّر للاحتمالات. تخيّل لو كنتَ على موعد مع شخص (أو شخصة) غير جاهزين للاقتراب كثيراً، وأحدهما راغبٌ في القرب.

■ ■ ■


كراهيّة الناس تُميت. وكراهيّة الأقربين أشدّ من الأبعدين. إذا تأكدتَ من كراهيّة أحد واجهه بالسؤال: «لماذا تكرهني؟». أيّاً يكن جوابه تكن أنت قد نَفَّسْتَ النحس إلى حين.

■ ■ ■


الإنسان لن يتقدّم كثيراً بعد اليوم. معظم البشر سيقيمون في حالات التخلّف والفقر والجهل التي اعتادوها. والأثرياء سيزدادون ثراءً.
الإنسان لن يتقدّم. كنّا نأمل في تقدّمه طبياً وجراحيّاً، ولكن أين؟ كلما أُحرز تقدُّم استحالَ تجارة. لماذا التقدّم حيث سيكون أداةً للاستغلال؟
الإنسان لن يتقدّم.
كلّ ما كان سيفعله «إنسانيّاً» فعله.

■ ■ ■


المتسامح يُحْتَقَر والمتشدّد يُبْغَض والمتوسّط يُخان بلا شغف.


■ ■ ■


سعادته تخيفه وتعرقله. تُكرّهه بسائر الرجال. تُحسّسه بخفّةٍ تشبه التفاهة. كان يفضّل سهولة المتعة على هذا العبء الذي ظاهره فرح وباطنُه تَخلُّف عن المكان الذي يحصل فيه الفرح الحقيقي.

■ ■ ■


لا تغفر المرأة لامرأةٍ أخرى أن تسرق منها رجلاً ولو لم تكن الأولى تحبّه... ولا الثانية!