الكتّاب اليوميّونأطالع الكتّاب اليوميّين ويتزايد اعتقادي بأنهم جبابرة. هذه الغزارة، السلاسة، الحيويّة، التجدّد، كيف يتحمّلون مواكبة حكام وسياسيين ويتعاملون معهم بالتي هي أحسن، ولو تهكموا وفي الغالب دون تسميات. جبال من المقالات.

لا أتحدث عن الكتّاب الأسبوعيّين أو الموسميّين. اليوميّون، اليوميّون من أمثال أحمد شومان وميشال أبو جودة في عهده الأول أيام انطلاقه بلا قيود إلّا الرصانة. وأتحدث عن جوزف سماحة ومقالاته المشبَعة المشبِعة، وعن فؤاد حدّاد «أبو الحن» قبل نهاية لبنان الحرّ الرائع القديم، وعن عبد الله المشنوق والياس ربابي وفؤاد سليمان (تموز).

أما اليوم، ومنذ سنين، فالحديث يحلو عن ظاهرة يتيمة هي درّة زمانها، ظاهرة سمير عطاالله، نجم الكتّاب اليوميين. ذاكرة تقيم الموتى من قبورهم وتنعش أرواحهم. مطرب التاريخ، بألحان كلماته الأجمل من الشعر.
أطالع سمير عطاالله كلّ يوم في «الشرق الأوسط» ومرة واحدة في «نهار» الأربعاء، ولا أصدّق. هذا النهر!
هذه الثقافة المحيطة! هذه اللغة التي يكتب بها مُصالحاً بين لغة الإمام علي والجاحظ وابن بطوطة ولغة سمير عطاالله التي لا أستطيع في هذا السياق أن أضيف إليها لغات سواه. ولو جمعت حصيلة سنة واحدة من مقالاته وأعدتَ الربط بينها من وحي التركيب القصصي لوجدت نفسك أمام كتاب يكاد يصل إلى حجم «الحرب والسلم»!
ماذا يغري هؤلاء لإفراغ موهبتهم يوميّاً وهدراً على صفحات الجرائد؟ ماذا يغري الياس الديري وراجح الخوري وساطع نور الدين وطلال سلمان وقبلهم أنيس منصور وعلي أمين ومصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد التابعي لإهداء صحافة زائلة سطحيّة خلاصة فكرهم وعصارة موهبتهم؟
من تجربة لي متقطعة مع الكتابة اليوميّة، أستنتج أن لها جاذب الضوء للفراشة أو جلسة المقهى للضجران. خفّة الاستخفاف وتنفيس البالونات المنفوخة. خفّة التعامل مع التاريخ كأنّه الحياة الزوجيّة.
لا أتهيّب الروايات ولا الدواوين، ولكني أقف مرتاعاً أمام المقالات اليوميّة ومتأمّلاً في قدرة الأقلام على مسامرة القارئ وتسليته وتثقيفه. فضلاً عن الجانب التأريخي من هذا الكدح، ولو أنه تأريخ من الوجه والسطح. وأحياناً يمسّ الأعماق، وحين يمسّها تبدو الصحيفة الحاملة للمقال كهيكل ومحرابه.

القارئ يجهل الظروف التي يكتب في ظلّها الكاتب الصحافي. ينسى أنه إنسان مثله وله عائلة وأقارب وصحّة وهواجس وربما تهديدات بالقتل. القارئ يجلس لكي يغسل له المعلّق صدره ويديه ودماغه.
والمعلّق يفعل على قَدْرين: قَدْر موهبته وقَدْر حاجة القارئ. وسيبقى هذا الثنائي كاتب ـــــ قارئ لغزاً مهما حلّلناه. فهو ثنائي نادراً ما يكون فيه تكافؤ وغالباً ما يكون ثنائي غالب ومغلوب. إذا كان الكاتب هو الغالب فالقارئ مرشح للإدمان وإذا كان القارئ فرحم الله الكاتب.
الأكثر أهميّة، والذي يكاد يحاذي الحجم التراجيدي، هو موهبة كاتب يسفحها كل أربع وعشرين ساعة على مذبح جريدة ستطوى وتموت بعد قليل بين يدي قارئها. فلنتصوّر هذا الكاتب قد «حقن» عبقريته وحجبها عن الصحافة، من أجل تأليف رواية أو مسرحيّة أو مجموعة قصائد، أو دراسات تذهب في العمق وتُعلّم وترود الآفاق المجهولة، أو انصرف إلى الموسيقى أو التصوير أو الفلسفة باحثاً مقلباً مُهْدياً إلى نوافذ جديدة... أيّة مساحات من الخَلْق كان سيغطّي؟ هل تعرف الصحف ماذا يُذْبح على هيكلها؟ وهل يعرف القارئ؟
والمُروع أشدّ ما يكون هو أن الكاتب هذا، إنْ جاء من يعرض عليه التفّرغ والانصراف إلى التأليف، سيتولّاه الفزع، وسيعتذر، فقد سيطرت عليه خفّة العبور.
انها لعنة نفاد الصبر. إدمان المفاجأة اليوميّة.
إنها متعة ارتماء الفراشة على الضوء.
إنها الدورة الدمويّة للأزمنة الحديثة.

■ ■ ■


«الوطن المستحيل»
جمع جوزف صايغ مقالاته الصحافيّة خلال نصف قرن وبعض ما كُتب عنه أو أجري من مقابلات في مُجلد من 1167 صفحة (دار نلسن) صدر قبل أسابيع تحت عنوان «الوطن المستحيل».
ركز صايغ على لبنان كما تهواه مخيّلته، قريباً من رؤيا سعيد عقل (أول كتب صايغ كان تحت عنوان «سعيد عقل وأشياء الجمال») الذي رأى العالم والحضارة من خلال الوطن الصغير، لكنه، خلافاً لسعيد عقل، لم «يتكيّف»، بل ثابر على موقفه الرافض للانحطاط الحاصل ولتنكر لبنان الواقع للبنان المرتجى.
يفعل جوزف صايغ ذلك على مدى مجلَّد ضخم بشمولية فكريّة وحسيّة قلّ نظيرها. وقد كنت شاهداً لجانب واسع من معاناته وكتاباته في «ملحق النهار» خلال ما سمّاه المؤلف «المرحلة الثانية». ويستوقف، في حديث أدلى به إلى ملحق جريدة «البيرق» يوم 2 تشرين الأول 1967، جوابه حول الأمميّة والقومية اذ يقول مستشرفاً: «اذا كان المستقبل هو للأمميّة (يمكن ان تقرأها «عولمة» على لغة اليوم) فإن المستقبل البعيد لا شك هو عودة إلى الهويّة القوميّة، لأن الأمم، متى بلغت شأوها فَرَزتْ عكسها، عملاً بسنّة التطوّر الجدليّة، فتعود الشعوب، في مثل ردّة، تبحث لنفسها عن حجم يلائمها في الجذور والاصول والتراث والهويّة والقوميّة. دائماً من النقيض إلى النقيض يتحرك التاريخ. دون ان يكرر نفسه مرتين، وهذه احدى معجزاته».
تغرف ولا تملّ من بحر الكاتب. لقد اثّرت في كثيرين ـــــ وأنا منهم ـــــ رؤيويّة كتاباته ونخوته اللبنانيّة وكِبَر تطلعاته. وهذا مجلّد تلك الأيام يعيدنا إليها، وتُرينا كم أمسينا اليوم يتامى.

■ ■ ■



عميدة المستَعْبَدين
هبط اورفيوس إلى الجحيم لاسترجاع امرأته اوريديس. وفرط ما فتن الدنيا بغنائه تنازلوا له عنها شرط ألّا يلتفت إلى الوراء في طريق العودة. رابه صمت اوريديس على درب الرجوع فلم يتمالك ان يلتفت للاطمئنان اليها، مخالفاً شرط الافراج. ووقع العقاب على ... اوريديس، فتحجرت ثم اختفت. وطفق اورفيوس يندب حظّه ويتوجّع من غلطته.
مغازٍ عديدة في الأسطورة. أحدها أن الشر (إله الجحيم هاديس) لا يعطي من غير أخذ ولا يتكارم من دون خطة بديلة. مغزى آخر: الضحيّة دائماً امرأة، سواء هبطت إلى الجحيم أو صعدت إلى السماء. ماذا تفعل امرأة في السماء!
ضحيّة الخير وضحيّة الشرّ وضحيّة نفسها. تملأ الأرض ولا مكان لها. ولا تزال عميدة المُستَعبدين.

■ ■ ■



لا فرق
«الخبراء الاستراتيجيون» الذين يتكاثرون على الشاشات، كنّا نود لو وضعوا خبراتهم في خدمة دولهم ومجتمعاتهم قبل أن يعلنوها على الشاشات. قليلاً ويصبح لدينا استراتيجيون بعدد «المطربين». إسرائيل التي خطّط لها وبناها ويحميها العقل الاستراتيجي خجلت أن تتباهى بربع هذا العدد من جماهير الخبراء في لبنان.
في الواقع، هؤلاء معلقون سياسيون، والكثير منهم موّظف عند هذا الفريق او ذلك، أو عند هذا النظام أو /و/ ذاك، بالأمس فات بعضهم استنكار المجزرة الابادية التي حصدت صباح الاربعاء الفائت في غوطة دمشق الفاً و 300 شهيد على الأقل بما قيل انه سلاح كيماوي، واستغرق في محاولة لاسناد المقتلة إلى فريق المعارضة. كأن تنصّل النظام من الجريمة يبرّر الابادة. القتلى لا أهمية لهم، المهم طيّ النهار بالتي هي أحسن للاعادة في الأيام التالية. وقد تكون المعارضة هي الفاعلة، ولم نعد نميّز بين السفّاحين، ولا نُفاضل. نحن مع الشعب السوري. الشعب المطحون بين وحشين، الشعب الذي يموت ويسكر غُلّابه بالحكي الاعلامي. الشعب الذي بدأها علمانية سلميّة واصبح تحت سكاكين النصرة والقاعدة والنظام لا فرق.





عابــــــرات

قويّة لأنكِ متّحفظة وساحرة لأنك عابرة.

■ ■ ■


حبٌّ لا يُقاد من السطح لا يُقاد من الاعماق.

■ ■ ■


الحبّ يشفي من الأمراض المستعصية لأنه يُفتّح في الجسد ينابيع مجهولة ويسكب من عيني المريض أشعّة قلب المُحبّ في كيان المحبوب، فتضع هذه سحرها العجيب على ما لا يصل إليه الّا الإيمان والحبّ.

■ ■ ■


الأكثر جلالاً في العلاقة هما اللقاء الأول واللقاء الأخير.
■ ■ ■

أجمل ما يُفْعَل بالمال التبرّع للمحتاجين. المحتاج جرح في الله، وتضميد هذا الجرح يساعد الله في بحثه عن الانسان.

■ ■ ■


علاقة الكائن بالضجر تُحدّد رقيّه النفسي.

■ ■ ■


لا أعرف حيواناً يزرع اليأس منهجيّاً في حيوان آخر الّا الانسان.

■ ■ ■


هل تحسب أنك اذا عرفتَ الآخر معرفة حقّة تخدم تعميق علاقتكما؟ المعرفة الحقّة تلغي الدافع إلى معظم أنواع العلاقة.

■ ■ ■


كلّنا ندفع الثمن لأنفسنا. نحن مَحاكمنا.

■ ■ ■


أفضّل مطالعة الكتب على تأليفها، وتأمُّل جمال امرأة على إقامة علاقة معها.

■ ■ ■


هل رأيت ورقة الشَجَر لحظة يطير عنها العصفور كيف ترتجف؟ الشاعر يرتعش بمقدار أوراق العصافير قاطبة.

■ ■ ■


من أين للشاعر أن ينطق وكأنّه مَرجع؟ من روحه.
وروحه قلبٌ صاحٍ في الوجدان الأكبر.