مات يعقوب الشدراوي (1934 ـــ 2013) أمس. رحل المخرج الذي كانت أعماله جزءاً من نهضة المسرح اللبناني الحديث. إنه قدر هذا النوع من المبدعين الذين يغيبون في زمن لا يشبه الزمن الذي شهد صناعة أسمائهم وتجاربهم. مقارنة بما يحدث اليوم في المسرح اللبناني، يبدو الشدراوي ــ مثله مثل أبناء جيله ــ قديماً وبعيداً. بعض أقرانه مدَّدوا العمر الافتراضي لحضورهم من خلال عروض تستجيب إلى حد ما للتطورات الهائلة التي حدثت في المسرح. بهذه الروحية اشتغل روجيه عساف، وكذلك فعل ريمون جبارة ونضال الأشقر وجلال خوري. استأنف هؤلاء مسيرتهم بعروض أعادت الحياة إلى الخشبات البيروتية بعد الحرب، وراحت أعمالهم تتحاور مع التجارب المستجدة لجيل الحرب التي اشتغل أصحابها على طموحات تتصل بما قدمه الجيل السابق، وتقطع الصلة به في الوقت نفسه. داخل هذه الصورة المختزلة، ساهم تقاعد الشدراوي من التدريس في كلية الفنون الجميلة، ثم مرضه بالسرطان لاحقاً، في تقليص حضوره مقارنة بالفرص التي حظي بها رفاق جيله. هكذا، ما إن عاد إلى المسرح بعد انتهاء الحرب بمسرحية «يا اسكندرية بحرك عجايب» (1996)، حتى بدأ هذا النوع من العروض يتراجع لصالح حساسيات جديدة «تطرد» أعمال الشدراوي والمخضرمين مثله إلى الصفوف الخلفية، بحيث بات هؤلاء نوعاً من تراثٍ حي ومجاور للأسماء الشابة. احترم الشبان تجارب آبائهم وأسلافهم، ولكنهم اندفعوا أكثر باتجاه الفنون المعاصرة، وصار المسرح في عروضهم أقرب إلى طموحات زملائهم المشتغلين في التجهيز والفيديو آرت. ولعلها ليست مصادفة أن يرحل الشدراوي نفسه بعد أيامٍ معدودة من عرض «33 لفة وبضع ثوان» الذي قدمه ربيع مروة ولينا صانع، وخلا من التمثيل بشكل كامل. نعم، صار المسرح في مكان آخر، وبات علينا أن نذكر أعمال الشدراوي كمحطات مضيئة في ذاكرة المحترف اللبناني. المخرج الذي أنهى منحة لدراسة المسرح في موسكو سنة 1968، قدم باكورته «أعرب ما يلي» مستلهماً نصوصاً لأدونيس وأنسي الحاج وسعدالله ونوس وغيرهم. الشعر (والأدب عموماً) الذي حضر في مسرحيته الأولى، تحول إلى علامة فارقة لمسيرته كلها. عمل صاحب «حكاية فاسكو» (مشروع تخرجه عن نص جورج شحادة) على النصوص الأدبية. ظل الأدب يشدّه إلى هذه النصوص كي يجوِّفها، ويدس رؤيته ومقترحاته في طياتها وهي تسلك طريقها إلى الخشبة. حدث ذلك في معظم أعماله التي نذكر منها: «جبران والقاعدة» عن نصوص لجبران وعن جبران، و«الطرطور» (1983) عن نص «الفرافير» ليوسف إدريس، و«المهرج» عن نص لمحمد الماغوط. رفع عاشق ستانسلافسكي وبريخت من شأن الكتابة على حساب التمارين والارتجال. كانت بروفاته قراءة مشتركة مع الممثلين في النصوص التي اختارها. عمل على غوص الممثل في الدور حسب منهجية معلمه الروسي، ومزج ذلك بأشكال مختلفة من التغريب المجلوب من عوالم معلمه الآخر الألماني. لكن الأهم أنّه ترجم ذلك في موضوعات محلية، ولم يحوّل ذلك إلى أسلوب يخصّه ويمكن تكراره. ربما هذا ما جعل الشدراوي صاحب مسرحيات، وليس صاحب دمغة ثابتة. وهو السبب نفسه الذي جعل تجربته محكومة بتعددية انتبه إليها النقاد واحتفوا بمزاجه المسرحي الخاص. «المسرح هو سيرك الحياة، ندخله ثم نغادره» قال الشدراوي يوماً، وها هو يغادر.