عمر مكتوب
أجمل ما في كتاب «أوراق من عمر مكتوب» لمنى بارودي الدملوجي (دار نلسن، مع مقدمة لسليمان بختي)، لقاء الأخطاء اللغويّة بالإحساس الطاهر والعبارات الآسرة. تروي السيّدة منى ذكريات عمر بين تأثيرات القرية (عين الرمّانة _ عاليه) عبر أجدادها وسائر ذويها، ونشأتها في شارع جان دارك برأس بيروت ودراستها من ابتدائيّة مس أمينة _ «البروتستانتيّة من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها» _ في الحيّ، إلى مدرسة البنات الأهليّة في وادي أبو جميل، التي كانت (حوالى الأربعينات من القرن العشرين) بإدارة أديل كسّاب، ثم تسلّمتها خالة المؤلّفة، وداد الخوري المقدسي، أو وداد قرطاس في ما بعد. علَّم في هذه المدرسة نخبة من الأساتذة، واندمجت فيها الطالبات من كلّ الطوائف والعائلات والاتجاهات السياسيّة، في جوٍّ علمانيّ متسامح، واشتهرت بنشاطاتها الثقافيّة والأدبيّة، وممّن لبّوا دعوتها إلى المحاضرة في البنات توفيق يوسف عوّاد عند صدور مجموعته القصصيّة «الصبي الأعرج» ثم روايته «الرغيف»، كذلك الدكتور قسطنطين زريق وعبد الله قبرصي، ومي زيادة «وكانت لتوّها قد شفيت من وعكة صحيّة ألمّت بها (...) أذكر جيّداً حضور تلك الشخصيّة اللطيفة على المنبر، كلامها المنمّق الموسيقي وتلك الروح الطيّبة، فقد كانت خطبتها قمّة الإبداع». وعندما شكّل ألكسي بطرس، مؤسّس الأكاديميا اللبنانيّة، أوّل جوقاته الكلاسيكيّة، «كان أكثر من نصف المنشدين من الأهليّة (...) وقدمنا حفلات عديدة في بيروت كانت أشهرها أوراتوريو «المسيح» لهاندل، الذي يطلب فيه قائد الجوقة من الحضور الوقوف احتراماً عند ترنيم الهاليلوليا».
تخيّلتُ وأنا أطالع ذكريات منى بارودي (التي تزوّجت العراقي فيصل الدملوجي وعاشا شطراً كبيراً من حياتهما في العراق منذ عهد الملك فيصل إلى صدّام حسين فالغزو الأميركي) تخيّلت لبنان كلّه كما تمنّاه كمال الصليبي على صورة رأس بيروت والحمرا، خليط طوائف وجنسيّات يغلب عليها التمدُّن البروتستانتي. لعلّ بروتستانت لبنان والعرب عموماً من أرقى بروتستانت العالم وأغناهم طباعاً وثقافة. خليل رامز سركيس، توفيق صايغ، يوسف الخال... والآن منى بارودي وأهلها الطيّبون الظرفاء. وكمال الصليبي. واكتشفنا من كتاب منى أنّ إميل البستاني، النائب الماروني السابق وأحد مؤسّسي شركة «الكات» وابن الدبيّة ووالد ميرنا، الذي قضى أواخر الخمسينات مع صديقه نمر طوقان بحادث طائرة غامض فوق البحر، كان أبوه مرشد البستاني بروتستانتيّاً. ومعروف أنّ المعلّم بطرس البستاني صاحب «محيط المحيط» ترك المارونيّة واعتنق البروتستانتيّة وكان من أبرز روّاد العلمانيّة والمساواة. وفارس الشدياق يوم ثار على البطريرك الماروني يوسف حبيش اعتنق البروتستانتيّة لفترة قبل أن يعتنق الإسلام في تونس.
تخيّلت لبنان كلّه رأس بيروت. ما أكبر فضل الجامعة الأميركيّة أيّام زمان، عهد المرسلين المؤسّسين الذين كانوا على الأرجح من جنس الملائكة. كان المستر «نكل»، مثلاً، المدير العام للإرساليّة البروتستانتيّة (التي أصبحت تسمّى الجامعة الأميركيّة) يقيم، كما تروي منى بارودي، «في منزل رحب في وسط حي البسطة ونما بينه وبين سكّان تلك المنطقة تعاطف غريب الشكل وودّ مميّز». وفي مكان آخر تقول: «كنت منذ الصغر معتادة على صداقة الصبيان والبنات سواء بسواء كأمر طبيعي (...) كان جيلنا مرتاحاً مع نفسه ويعرف ماذا يريد. خياراتنا المحدودة كافية ومُرضية. عموماً كان كلّ الذين زاملتهم وعرفتهم غاية في اللياقة مع الفتيات، وغاية في حسن التصرّف. فلم تكن الضوابط الاجتماعيّة قد سقطت بعد...».
وما أعظم التلاقُح! حين يتنشّق الماروني هواء البروتستانت والشيعي إلحاد الشيوعيّة! حين يجاور المسلمون المسيحيّين كما كانوا في أحياء المزرعة والمصيطبة والبسطتين! حين يتلاقى مثقّفو اللاتين بمثقّفي الإنكلو ساكسون! حين يعانق البحرُ الجبل والبورجوازيّةُ أهل القرى! وحين يعود الطائف من طوافه فيكتشف تفوّق الحياة على الفوارق، فينتقل يوسف الخال من رأس بيروت إلى غزير في كسروان وبول شاوول من سنّ الفيل إلى شارع الحمرا! حين يتمسّك المطران خليل أبو نادر بمدرسة الحكمة في بيروت الغربيّة ويتمسّك نبيه أبو الحسن ومصطفى جحا بالعيش في المنطقة الشرقيّة! حين تنفتح النفوس لتيّارات الحياة ولا تنغلق بالتعصّب.
ذلك كان سرّ رأس بيروت. وهذا هو شرط خلاص لبنان. وشرط خلاص سوريا والعراق وفلسطين وإلى آخره.
عن تعرُّفها إلى مَن سوف يغدو زوجها، الطالب العراقي في بيروت فيصل الدملوجي، تقول منى بارودي: «بعد فترة تعمّقت أحاديثنا وأصبحت لقاءاتنا متكرّرة بنزهاتٍ في حدائق الجامعة (الأميركيّة). وفي كلّ لقاء كانت خطواتنا تقترب من أفق لا نراه. ولكنْ كنّا نتلمّس ملامحه».
... «كانت خطواتنا تقترب من أفق لا نراه». هوذا كلام يصهر منتهى الإحساس في منتهى التعبير. لؤلؤة شعريّة، بَرَقت كطائرٍ يفرّ بغتةً أمامك من دَغْل.
ما أحلى هذه الكتابة! تدفُّق طبيعي يفكفك العِقَد، يجرفك بلا جهد. أجمل المسرحيّات هي تلك التي بلا «إخراج».
ذكرياتٌ منقوعة بمسْك الطيبة وماورد المحبّة ودمع الحنين.






مسؤوليّة التقييم
يصعب على المعاصر تقييم معاصره حيّاً. ما نعايشه نرتاده بعيون المعايشة، وهي كالمساكنة بين الزوجين غالباً ما تؤدّي إلى الضجر وأحياناً إلى التباغض.
لا بدّ من الموت ليشعر المرء بالفَرْق. يحتفظ الموت لنفسه بامتياز الافتقاد. سكّة الحياة مُطَمْئنة، مُبهّتة، والحيويّة البادية على سالكيها هي حركة بيولوجيّة لا تتخطّى حدودها هذه إلّا لدى مَن أُنعم عليهم بالفراسة والذكاء الخارقين، وهم على الدوام قلّة.
ما دمتَ حيّاً فأنتَ تحت رحمة النظر، طويله النادر وقصيره الساحق.
رحمةُ الحياة هي في إغداقها الشهرة، والشهرةُ ذيوعٌ أُفقيّ مصيرها مصير الشمعة. القيمة عموديّة، تبقى على الدهر، إنْ لم تحتفظ برواجها المشعّ عصراً فعصراً تحتفظ بمكانتها الخالدة كمبدأ يتجاوز مدلوله الفوري. وقد يخرج من السياق اليومي لكنّه يقيم في الفضاء الرمزي. نحن لا نطالع اليوم هوميروس لكنّنا نرجع إلى رموزه في قاموسنا التذكاري، ولا نستشهد بامرئ القيس ولافونتين لكنّهما استقرّا في تكوين الذهن حجرين أساسيّين.
لئن كنّا هنا نراود الماضي عن نفسه فمن باب الإشارة إلى الفرق بين سهولة «الظهور» المعاصر وصعوبته في القديم، والتركيز على الدور الخطير بل الأخطر الذي يضطلع به التقييم، وفي طليعته النقد الأكاديمي والصحافي والانطباعي. لا يعني هذا، التقليل من أهميّة «الجمال الحديث» أو المعاصر، إنّما وجوب التركيز على التقييم _ وهو مسؤوليّة اكتشافيّة وإبداعيّة _ كمحكمة لا غنى عنها.
محكمة قد تخطئ، غير أنّ وجودها يحمي من الإمعان في الخطأ.
لكلّ زمنٍ مقاييسه، في العادات والأخلاق كما في الجماليّات. لذلك يتعاظم دور المقيِّم وتتعاظم مسؤوليّته عن الاهتداء إلى الجواهر في زمانها وزمانه. الشهرة تساعده للالتفات، ولا تساعده أبعد من ذلك. من أعسر المهمّات أن يكتشف الناقد والباحث أهميّة معاصريه في حينهم وأن لا يكتفي بجلاء ما يتشاركون فيه بل أن يسبر ما يميّز الواحد منهم عن الآخر.





مشهد
عديم الشفتين مسنون الحاجبين، أزرق الأسنان أحمق العينين، قزم اليدين والرِجلين، يتلأمن في المقهى على رفيقه (ورفيقه درويش طيّب)، يُنقّط سمّاً وهو مرتاح إلى مقعده ارتياح بودا إلى تمثاله. تتساءل كيف احتمَلَ هذا الكائن أن يَعْبر الزمن على هذا النحو، فينمو ويستقرّ ويصاحب دون أن يشعر بغلاظته؟
كائنٌ يوقظ في الناظر إليه شهوة الضرب. قدرة رفيقه المسكين على التحمُّل لا توصف. هذا الرفيق إمّا مأجور وإمّا قدّيس.
بشاعةٌ جسمانيّة وأخلاقيّة توجز الشرّ. الشرّ بشاعةٌ عمياء منهمرة ومبتهجة وساحقة.
البشاعةُ المغلوبة على نفسها تثير الشفقة، وأحياناً قد تتحوّل، بفعل تحنان مَن قد يتعاطف معها، إلى نوعٍ من الجمال.
البشاعةُ المتسلّطةُ، المتغذّيةُ من مسالمةِ الأوادم، هذه يجب أن يواجهها أبطال فنون القتال الآسيويّة ويُربّوها.




لقاء الذات
الروائيّون نوعان: واحدٌ يبحث عن أشخاصه في الخارج وآخر «يطبخهم» في الداخل.
الخارج بلزاكيّون. الداخل دوستيوفسكيّون.
المؤلّف الداخلي يستعير نماذج من الخارج (دوستيفوسكي نقل في صباه «الأب غوريو» لبلزاك إلى الروسيّة) لكنّه، أراد أم لم يُرِد، يُعيد إنتاجها في فرنه. لذلك تتفوّق على أشخاص القصص «الواقعيّة».
القصّة الواقعيّة تظلّ في حدود الاجتماع والسياسة. القصّة المطبوخة بالفرن الداخلي تتبطّن بالصوف الميتافيزيكي.
ليس التأليفُ الأدبيّ بحثاً في مختبر ولا تجوالاً على بقاع الجغرافيا. ولا هو تصويرٌ لمحفوظات متحف. لندع هذه، بالكاد، لعلماء السلالات والآثار. التأليف الأدبيّ حصادٌ من الغرفة السوداء، حيث يحصل اندماجُ الحصّة البشريّة بالحصّة الإلهيّة.
لقاءُ الظلّ بالأصل.
أو صراعهما.
أحياناً يكون هذا من حظّ الجهتين، الأصل والظلّ. أو يكون مستحيلاً، فالفراغ، مثلاً، لا يعكس سوى فراغ. في حالات استثنائيّة قد يعكس الزَيَف تطهُّراً من نفسه، فيصير الظلّ أفضل من الأصل. في حالات الصعود من الجحيم.
اعتناق الذات هداية. إذا نجح المرء في تحقيق غايته يستطيع القول بكلّ سعادة «حَسَناً فعلت». أو يقول: «حسناً حاولت»... تكون حياته قد استحقّته.