بعدما تربّعت على عرش الجمال اللبناني كإحدى أجمل القرى اللبنانيّة، تخوض بلدة دوما (قضاء البترون) منافسة محتدمة مع مئات القرى من عشرات الدول للفوز بجائزة «أفضل القرى السياحية» في العالم لعام 2023، التي تنظمها «منظمة السياحة العالميّة» ويُفترض أن تصدر نتائجها في أواخر العام الحالي. اختارت وزارة السياحة بلدة دوما لتكون ممثلة لبنان الوحيدة في النسخة الثالثة من المسابقة، التي سبق لبلدة بكاسين الجزّينيّة أن كانت من ضمن الفائزين بها في نسختها الأولى عام 2021.
وبحسب «منظمة السياحة العالميّة»، تهدف مبادرة «أفضل القرى السياحية» إلى «جعل السياحة محرّكاً للتنمية الريفية والرفاه، وإلى تسليط الضوء على أمثلة بارزة للمقاصد السياحية الريفية ذات الأصول الثقافية والطبيعية، التي تصون وتعزز القيم والمنتجات وأنماط الحياة الريفية والمجتمعية، وتلتزم بمفاهيم الابتكار والاستدامة في جميع جوانبها».
تعتبر حظوظ دوما مرتفعة نظراً إلى المقوّمات التاريخية والثقافية والطبيعية والعمرانية التي تتميّز بها، ما يجعلها مقصداً سياحياً استثنائياً، حتى باتت زيارتها مضرب مثل في لبنان، وهي التي اشتهر بها القول: «متل العايز مشوار ع دوما».
يُشير رئيس البلدية، أسد عيسى، إلى أنّ «فور تبلغ البلدية قرار وزارة السياحة، تحوّلت إلى خلية نحل. عمدنا إلى إنشاء لجنة من أبناء القرية من ذوي الاختصاص والخبرة لمناقشة الأفكار وتحضير ملف متكامل يعكس جمال دوما ومقوّماتها السياحية وفق الشروط المطلوبة من قبل منظمة السياحة العالميّة. وقد بادرنا في هذا الصدد إلى إنجاز فيديوات تعريفية عدّة عن دوما، بمشاركة أبنائها من الأعمار كافة، إضافة إلى الإجابة عن الأسئلة المطروحة التي تغطي كلّ جوانب الحياة في القرية، والموثّقة بالأدلة والبراهين». ويلفت إلى أنّ العمل «تطلّب جهداً جبّاراً، خصوصاً أنّ جذور دوما ضاربة في القدم»، إذ تُشير المراجع التاريخية والآثار التي تحويها البلدة إلى أنّها كانت مزدهرة منذ العهدين اليوناني والروماني، فالعديد من كنائسها الحاليّة كانت في السابق معابد لآلهة وثنية، أبرزها إله الصحة أسكلابيوس، الذي لا يزال ناووس كاهن المعبد المخصّص له جاثماً في وسط ساحة البلدة. ويكشف عيسى عن وجود «منقوشات على الصخور في نطاق دوما تعود إلى زمن الإمبراطور الروماني أدريانوس، تحرّم قطع الأشجار، إضافة إلى خوابي اكتشفت أخيراً في السوق تبيّن أن تاريخها يعود إلى العصر البيزنطي. أضف إليها الوثائق الموجودة في البلدية ومنها الفرمان السلطاني الذي أجاز لأهالي دوما حماية السكة السلطانية، التي عُرفت لاحقاً باسم سكّة الشام».
يعتبر سوق دوما التاريخي (بدأ بالظهور في مطلع القرن السابع عشر ويخضع لعملية ترميم شاملة منذ أواخر العام الماضي) عصب الحياة فيها وركيزة ازدهارها، ولا سيّما منذ القرن التاسع عشر. نشوء السوق يعكس ذكاء أهالي البلدة الذين عرفوا كيفية الإفادة من موقعها المميز الذي يشكّل صلة وصل ما بين الداخل والساحل على سكّة الشام، وهو ما ترجم في تخصيص خمسة مداخل للسوق، كلّ منها معدّ للقادمين من منطقة معيّنة: البترون وجبيل والهرمل وبعلبك وطرابلس.
النهضة التي شهدتها دوما، جعلتها عاصمة الناحية الجردية لجبل لبنان القديم، وهو ما حتّم على السلطات العثمانية الاعتراف بمكانتها، وبالتالي إصدار فرمان سلطاني يقضي بإنشاء قوميسيون بلدي عام 1881 لتكون بذلك بلدية دوما، من أوائل البلديات التي تأسّست في لبنان.
انعكس التطوّر الاقتصادي والاجتماعي في البلدة على سكانها الذين أفادوا من تحسّن أحوالهم المادية لبناء منازل تراثية عريقة، يقدّر عددها حالياً بأكثر من 300، يكلّل معظمها القرميد الأحمر فيما تتميّز بعمارتها المتفرّدة وهندستها الفخمة والرسومات المبهرة التي تزيّن الكثير من السقوف. ويؤكد عيسى أنّ دوما «تعتبر مقصداً لمحبي العمارة في لبنان ومن حول العالم».
ترافقت النهضة العمرانية مع نهضة ثقافية وعلمية في البلدة، تشهد عليها كثرة المدارس التي تأسست في البلدة منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن دوما، المطران أنطونيوس بشير، مترجم مؤلّفات عدّة لجبران خليل جبران. ومن على مسرح ناديها، اعتلت أوّل سيدة مسرحاً في الشرق. أما «صيدلية النور» التي تأسست فيها عام 1860، فتعتبر من أوائل الصيدليات بالمعنى الحديث للكلمة في الشرق. وفي سوقها، افتتح فؤاد صوايا عام 1951 السينما التي عُرفت باسمه، قبل تسع سنوات من ظهور التلفزيون في لبنان.
صدر دوما رحب لزوّارها، إذ تحوي مطاعم وبيوت ضيافة كثيرة، إضافة إلى فندقها الشهير الدائري الشكل الذي تأسّس في ستينيات القرن الماضي بفضل تبرّعات الأهالي. كما توفّر دوما لمحبّي الطبيعة مسارات مشي عدّة، أبرزها مسار سكة الشام الذي يصل دوما ببالوع بلعة، المعلم الطبيعي الاستثنائي.