النجومية والضوء كانا يطوّقانه منذ أن كان طالباً، فأبهى ذكرياته عندما فاز في مسابقة أفضل مصوّر ضوئي نظّمتها الأمم المتحدة لأطفال العالم! كان آنذاك الطفل هشام شربتجي، واليوم صار المخرج الراحل (1948ـــــ 2023) أو شيخ الكار الذي وسّع لنفسه مطرحاً راسخاً لا تمحوه السنون مهما تراكمت على خريطة الدراما العربية. مشوار مترف بالغنى ومسيّج بالإبداع ولو شابته في نهاياته عزلة اختارها بنفسه، وملامح نكران صريحة عند كثيرين، لكنّها مسيرة مسبوكة بالشغل والإنجاز الثري.منذ شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) 2021، أجهزت عليه سكتة دماغية أدخلته غيبوبةً قبل أن يتماثل نحو الوعي نسبياً. لكنّه ظلّ طريح الفراش إلى درجة تمنى له محبّوه أن يرتاح، إلى أن غادر أمس دمشق. ربما يكون أثرى ما أنجزه أنه ترك خليفتين في هذا العالم لن يقلّا أهمية عنه هما المخرجة رشا شربتجي، ومدير الإضاءة والتصوير يزن شربتجي الذي انتقل أخيراً إلى ضفة الإخراج.
وسط عائلة نموذجية قوامها ثلاثة أطفال، عاش هشام شربتجي واختزنت ذاكرة طفولته الكثير من الحكايات والأساطير في منطقة المهاجرين في دمشق، وفي حي الأولياء الذي سمي كذلك لأنّ غالبية البيوت كانت تحوي قبراً لأحد الأولياء الصالحين. وظلّت العاصمة السورية ملهمة مخيلته، هو الذي ولد خارج سور دمشق القديمة.
لم يخطر في باله يوماً أنّه سيدخل الوسط الفني رغم موهبته التي ظهرت باكراً. كان يريد للفن أن يبقى هواية، وتمنّى أن يمتهن الطيران ليجوب السماء، على أساس أنّ ذلك هو التعبير الأبلغ عن الحرية. وبالفعل، حاز الشهادة الثانوية وسافر إلى مصر ليدرس في «معهد إمبابا للطيران»، إلى جانب انتسابه إلى أكاديمية الفنون. لكن النكسة دمّرت المعهد، فلم يعد أمامه سوى التفرّغ للفنون، ودراسة الأدب المقارن. ثم شاءت المصادفات أن يتجه نحو الإخراج، بعدما عُيِّن مخرجاً في إذاعة دمشق.
بمشاركة الإعلامي نذير عقيل، أسّس شكلاً جديداً من أشكال الدراما الإذاعية الناقدة، جعله اسماً معروفاً رغم عمله في غرفة الكونترول. بعد ذلك، انتقل بهذا النوع من الدراما إلى التلفزيون بدعم من الإعلامي المخضرم فؤاد بلاط. وهنا، انطلق بعمل يشبه شكل الدراما التي قدمها «مسرح الشوك»، و«قصاقيص». وفي الإذاعة، سيرزق بطفلته رشا فيقطع البث المباشر ويخبر المستمعين بما حصل معه ويتقبل «العقوبة» التي نزلت عليه بمنتهى الفرح! بدايته الفعلية كانت عام 1981، عندما أطلق مع الكوميدي ياسر العظمة الجزء الأول من المسلسل الكوميدي النقدي «مرايا». لاحقاً سيخرج أجزاءً عدّة من هذا المسلسل، قبل أن يتركه بسبب اعتراضه على المستوى الذي وصل إليه. الصراحة الجارحة هي خبز هشام شربتجي الذي اعتاده في أغلب لقاءاته الصحافية.
المشوار امتد من سلسلة «مرايا» (ياسر العظمة وعدد من الكتّاب) إلى «عيلة خمس نجوم» (كتابة حكم البابا) و«يوميات مدير عام1» (كتابة زياد الريّس). أسهم أيضاً في صنع دراما معاصرة جذابة، لذا كان يرى بأن الكوميديا لعنة أصابته عندما نجح في تقديمها، بينما يعتدّ بأعماله الاجتماعية أكثر. وبالفعل، حققت مسلسلاته الاجتماعية قبولاً واسعاً لدى الجمهور، وأسهمت في صناعة نجوم سوريين، خصوصاً مسلسلي «أسرار المدينة» و«أيامنا الحلوة» اللذين كتبهما حسن سامي يوسف ونجيب نصير. وكان شربتجي أوّل من نبش في القاع بمسلسلات مثل «أيامنا الحلوة» (كتابة يوسف ونصير).
كان مزاجياً بطريقة ليست غريبة عن الفنان. لكن بمزاجه ذاك صنع قسطاً وافراً من مجد الدراما السورية، الكوميديا منها على وجه الخصوص، فيما يتحدّث الفنيون الذين عملوا معه عن ميزة تمتّع بها دوناً عن غيره، إذ كان يصوّر المشهد على ثلاث دفعات: بداية بروفا صوت فقط، مستفيداً بذلك من خبرته الطويلة في الإذاعة، ثم بروفا صوت وحركة وصورة، يليها المشهد. كما أنه الوحيد من بين جيله الذي ينفق أمواله كلّها تقريباً على التكنولوجيا، ويفهم في أحدث صيحات الصورة، وأنواع الكاميرات، أيضاً هذا تفصيل لا يدرك أهميته سوى المختصين.
الخبر المحزن أعلنه نجل الراحل يزن الذي اكتفى بتوجيه الشكر لوالده على كلّ شيء ودعا له بالرحمة، لتندلع السوشال ميديا السورية محتفيةً بالراحل ومنجزه. ومن بين المعزّين ياسر العظمة، ثم أيمن زيدان، وباسم ياخور، وشكران مرتجى، وزهير قنوع، ونور الشيشكلي، ومازن طه والكثير من العاملين في الوسط الفني، الذين يعتبرون الرجل ملهماً ومرجعاً وشريكاً خاصاً، وبعضهم يرجع إليه الفضل في انطلاقته!