«أنا اعتزلت الحمد لله» هي الجملة التي قالها داود عبدالسيد (1946) بهدوء. لم يكن يتوقّع أن تتبعها عاصفة كبيرة، تطرح الكثير من علامات الاستفهام حول سبب اعتزال أحد أهم المخرجين المصريّين، وأيضاً حول طبيعة المشهد السينمائي الحالي في مصر والعالم.
داود عبد السيد: حدوث تغيّرات كبيرة لا أستطيع التجاوب معها

جاء تصريح عبدالسيد خلال لقاء تلفزيوني تحدّث خلاله عن مشواره الطويل، وسبب بقائه ستّ سنوات كاملة من دون تقديم عمل جديد. لكن الغريب أنّه أرجع ذلك إلى «الجمهور» قائلاً: «ماقدرش أتعامل مع الجمهور الموجود حالياً ونوعية الأفلام التي يفضلها، لأنه يبحث عن التسلية».
تواصلنا مع المخرج الكبير لفهم أسباب القرار، فردّ بأنّ «الاعتزال ليس قراراً إنما أمر واقع. منذ فيلم «قدرات غير عادية» في 2015، لم أقدّم أي جديد بسبب ظروفي الشخصية والمناخ السائد». وأوضح أنّ الأمر ليس احتجاجاً كما فهم بعضهم: «قلت إني معتزل بتلقائية لوصف وضع قائم بالفعل. ولو كنت أعلم أنّ كل هذه الضجة ستحدث، لكنت ربما تراجعت عن قول ذلك». أما في ما يخص الجمهور الذي علّق عليه عبدالسيد سبب اعتزاله، فقد أوضح قائلاً: «التغيرات الاقتصادية الحالية غيّرت جمهور السينما. غاب أصحاب الطبقة المتوسطة عن قاعات السينما، وباتوا مشغولين بتأمين حياة كريمة لأنفسهم. أما الجمهور الحالي من روّاد المولات وطبقة أخرى، فلديه اهتمامات مختلفة، وهو ليس الجمهور الذي تعوّدت عليه. وهذه فقط وجهة نظري». لكن هل يمكن أن يكون الجمهور سبباً في اعتزال مخرج «الكيت كات» خصوصاً في عصر منصات الستريمينغ؟ يجيب: «لم أقل إنّ الجمهور هو السبب الوحيد. فقط أشرح حدوث تغيرات كبيرة لا أستطيع التجاوب معها. أنا نفسي لم أعد أذهب إلى السينما». أما عن العومل الأخرى التي تسببت في قراره، فأوضح: «شكل الإنتاج بمنظومته الحالية وسقف الحريات، وحتى لا أتجنى على أحد، فسنّي وظروفي الشخصية تشكّلان أحد العوامل أيضاً. أما بالنسبة إلى المنصات الإلكترونية، فلا مساحة تواصل معهم لإنتاج أعمالي». يتواصل داود عبدالسيد مع المخرجين الشباب ويتنبأ لهم بمستقبل واعد رغم «أنهم يحاولون التكيّف مع المناخ الحالي للاستمرار في العمل، فلا تظهر إمكانيّتهم ومواهبهم الحقيقية» بحسب تعبيره. ويعتبر فيلمي «أخضر يابس» (2016) و«ليل خارجي» (2018) من أفضل الأفلام المصرية لمخرجين شباب خلال الفترة الماضية». وعن رؤيته إلى خروج السينما المصرية ممّا وصفه بالأزمة، قال: «لا سبيل إلى ذلك إلا بتوافر الحريات بشكل كامل ورفع الرقابة تماماً. وأهم شيء هو وقف الاحتكار الحالي في الإنتاج». يعدّ داود عبدالسيد أحد أهم المخرجين في السينما المصرية، بدأ مسيرته بالعمل كمساعد مخرج مع يوسف شاهين في فيلم «الأرض» (1969). بعد ذلك، اتّجه لإخراج الأفلام التسجيليّة منها: «وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم» ( 1976) الذي يوثّق تاريخ محو الأمية في مصر منذ الاحتلال البريطاني وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي. صُنِّف ضمن صُنّاع ما سمي بـ «السينما الواقعية الجديدة» أمثال محمد خان، ورأفت الميهي، وعاطف الطيب، وخيري بشارة في مصر بتقديم أعمال اعتمدت على الخروج من الاستوديو إلى الشارع، ولا تستند إلى الحبكة التقليدية التي طغت لعقود طويلة، كما قارعت الكثير من التابوهات الاجتماعية. تميّز اسمه بين هؤلاء على مدار مشوار طويل صنع خلاله طابعه الخاص. اختير فيلمه ما قبل الأخير «رسائل البحر» (2010) كأفضل فيلم مصري في العقد الثاني من الألفية الجديدة، ضمن «استفتاء النقّاد المصريّين» على أفضل أفلام من 2010 إلى 2020. كما أخرجَ أحد أهم أفلام السينما المصرية، أي «الكيت كات» (1991)، الذي يحتلّ المركز الثامن في قائمة أهم 100 فيلم عربي في التاريخ، ضمن «قائمة مهرجان دبي السينمائي» التي تمّ التصويت عليها عام 2013، وضمّت أيضاً فيلمَين آخرين له هما: «رسائل البحر» و«أرض الخوف».