رحلت أمس الشاعرة والرسّامة السوريّة اللبنانية إيتل عدنان (1925 – 2021)، في باريس عن ستة وتسعين عاماً. هكذا انتهت واحدة من أغنى التجارب الشعرية والفنية في العالم العربي والعالم، بتنوّعها بين الشعر والفن التشكيلي والصحافة والفلسفة. يصعب اختزال حياة عدنان، التي ولدت في بيروت لأم يونانية وأب سوري. في بداية العشرين من عمرها، تركت بيروت التي ولدت فيها إلى فرنسا، حيث درست الفلسفة في جامعة السوربون قبل أن تنتقل بعدها إلى أميركا، وتحديداً إلى كاليفورنيا التي علّمت في إحدى جامعاتها فلسفة الفن، بين الخمسينيات والسبعينيات. في تلك الفترة، بدأت تتبلور شخصية الشاعرة الشابّة التي كانت قد كتبت حينها «قصيدة البحر» المستلهمة من علاقتها الفائضة مع بحر بيروت.
تخلّت عن الكتابة بالفرنسية، كموقف ضدّ الاستعمار واتخذت الرسم بالعربية بديلاً من ذلك

حرب التحرير الجزائرية كانت إيذاناً لها في تلك الفترة للتخلّي عن الكتابة بالفرنسية، كموقف ضدّ الاستعمار الفرنسي. اتخذت الرسم بديلاً من ذلك كلغة للتعبير، وتحديداً الرسم بالعربية وفق تعبيرها. بينما كانت الكتابة عدسة ما تراه، كان الرسم بالنسبة إليها عدسة لدواخلها، على حد تعبيرها. من هنا يمكن قراءة الفارق ما بين الكتابة، والرسم كلغة طبيعية داخليّة، رسمتها مساحات طبيعية غالباً من أنابيب الألوان ومباشرة بالسكين. وبالتزامن مع الحرب الأميركية على فيتنام، بدأت كتابة الشعر بالإنكليزيّة. كأنّه كان محكوماً على شعرها، أن ينقاد وراء الثورات والحروب والمآزق السياسية والإنسانية بين فيتنام والجزائر والعراق وفلسطين ولبنان بالطبع.
لم تعد عدنان إلى بيروت، إلا عام 1972، في وقت كانت المدينة تتلمّس طريقها إلى الحرب الأهلية. عملت في تلك الفترة كمحرّرة ثقافية لجريدة «الصفا» الصادرة بالفرنسية، وبعدها في «لوريان». كأنما هناك ما كان يطردها من المدينة. فالحرب التي اندلعت عام 1975، دفعتها مجدّداً للسفر إلى باريس، حيث كتبت روايتها الوحيدة «الست ماري روز» (1977) حول حياة المهاجرة السورية ماري روز بولس التي أسّست مدرسة للصم والبكم في لبنان.
لم يستطع أي أسلوب تعبير أن يتسع لإيتل عدنان، التي وزّعت تجربتها الأدبية على النثر والشعر في مؤلّفات مثل Moonshots عام 1966، و«الهندي لم يملك جواداً» (1985)، و«هناك ــ في ضياء وظلمة النفس والآخر» (1997) التي ترجمها عن الإنكليزية الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، و«قصائد الزيزفون» التي صدرت بالعربية عام 2001، و«يوم القيامة العربي» (1998). أما قصائدها ونصوصها، فقد وجدت طريقها إلى العربية من خلال مجلّات «شعر» و«مواقف» و«الكرمل» و«ملحق النهار». في النثر، كتبت عدنان «عن مدن ونساء: رسائل إلى فوّاز» (1993) وهي عبارة عن رسائل عن النسوية أرسلتها عدنان إلى فوّاز طرابلسي، و«باريس عندما تتعرّى» (1993) ومؤلّفات أخرى. ومثلما تمدّدت أمكنة عدنان بين مدن عدّة، تنوّعت لغاتها بين الفرنسية والإنكليزية بالإضافة إلى ممارستها الفنيّة نفسها. وبالعودة إلى لوحاتها، فقد سيطر عليها نوع من التدفّق اللوني والشكلي، الذي لم يخل من الشاعرية الهادئة والتأمليّة، في ترجمتها لأمكنة ومشاهد طبيعية من أسفارها بين المدن. لكنها في كلّ الحالات، تصبح على سطح اللوحة أمكنة خاصّة وداخلية تقوم على فائض وطفرة لونيّة ضمن قالب تجريدي من الأشكال والمربعات والدوائر والخطوط التي تتقاسم المشهد. وفي رسمها للطبيعة، ثمة ما هو أكثر من عملية تقنية في نقل التضاريس الماديّة للمدن بقدر كان أشبه باستنطاق لمفاهيمها الفلسفية الواسعة. لطالما تعاملت عدنان مع الفن على أنّه لغة أخرى. هو كان بابها إلى العربية خصوصاً في دفاترها المطويّة «ليبيريللو» المستلهمة من الدفاتر اليابانيّة، وقد بدأت العمل عليها منذ الستينيات. فيها استثمرت عدنان ليونة اللغة العربية وأحرفها التي تتحوّل إلى لغة فنية أخرى، من خلال التحكّم والتنويع على أحجام الأحرف والكلمات وأشكالها، خصوصاً حين نقلت مراراً في السابق قصائد بعض الشعراء العرب أمثال عبد الوهاب البياتي وأنسي الحاج وآخرين. أعمال أتيح لنا رؤيتها في معرضها البيروتي الأخير الذي احتضنته غاليري «صفير زملر» (الكرنتينا ــ بيروت) عام 2019، بعنوان «انتفاضة الألوان»، فقد أرادته بارقة أمل للبلاد التي كانت وما زالت تخوض أقسى أزماتها. أما معرضها الاستعادي الأخير، «قياس جديد للضوء»، فلا يزال مستمراً في متحف «غوغنهايم» في نيويورك حتى بداية السنة المقبلة.