«لا لا لا لا لا لا لا لا صوتك ما بيسوى أبداً»… استشاط «نخلة التنّين» (الراحل جوزيف صقر) غضباً، موجّهاً الكلام إلى المتباري (مروان محفوظ) الذي أتاه في اللحظة الأخيرة للمشاركة في مسابقة فحص أصوات، اعتقد أنها انتهت بتكريسه مطرباً أولاً وأخيراً في قهوته. الأمير ينازل الملك ويهدّد عرشه، في مشهد المبارزة بـ«الآهات» الذي أبدع فيه زياد الرحباني (1956)، الفتى يومها، في مسرحيته الأولى «سهرية» (1973). الملك رحل بالأمس، والأمير رحل أول من أمس. بدون مهلة، قتل كورونا مروان محفوظ، صاحب الشخصية والنفسية المعكوستَين في نبرة صوته إن تكلّم وإن غنّى: طيّب، أنيق وصُلْب. قتله ولم ينتصر عليه لأنّ الأغاني الجميلة لا تمرَض ولا تموت.مشوار مروان محفوظ (اسمه الأصلي أنطوان محفوظ) في الفن هو من النوع الذي انقرض: ولد في المريجات (البقاع) عام 1942. عشق الفولكلور والزجل والفن الشعبي فغنّاها في منطقته، ثم انتقل إلى بيروت أواسط الخمسينيات لتدعيم الموهبة بالتهذيب والمعرفة الأكاديميَّين. جاهد في الأعمال الصغيرة لدفع تكاليف دراسته الموسيقية في «المعهد الوطني» حيث تولّى سليم الحلو وغيره تعليمه وتوجيهه. رصدته الأذن الذهبية، أي أذن عاصي الرحباني (ومن غيره؟)، عندما شارك في أحد برامج الهواة الفنية (الفن هوايتي) على تلفزيون لبنان في الستينيات، كشخصية يمكن أن تملأ مكاناً في المشروع الفني المنطلق من الفولكلور لتطوير الأغنية الشعبية اللبنانية.
شارك في معظم أعمال الأخوين رحباني المسرحية الغنائية بين 1965 و1973، لكنّ وَفْرة العمالقة أبقته بعيداً عن أدوار البطولة، إلى أن جاءت «سهرية» لتكون وتبقى أهم محطة في مسيرة مروان محفوظ الفنيّة الغنائيّة والتمثيليّة، تقريباً بدون منازع. هو الشاب اللطيف والمحترم الذي أتى للمشاركة في مسابقة فحص الأصوات، قبل أن يقع في حب ياسمين (جورجيت صايغ) وتبدأ الحكاية بين الوالد الخائف على مكانته الفنية في قهوته وعلى ابنته مِن أنْ تُدخِل هذا التهديد إلى البيت. يبدأ التشنّج وتتوالى الأغنيات الجميلة، بين الحب والتحدّي، لتبلغ النهاية السعيدة، حيث تعترف المواهب بعضها ببعض ويسلّم «المعلِّم» الشعلة للشباب وتلتقي القلوب العاشقة في فائض من الفرح الذي تضيئه نجوم الليل. في المسرحية نسمع من مروان محفوظ «يا سيف العالإعدا طايل» (وموالها «يا خيل الليل» الذي يجمع بين الزجل في الشكل، أي العتابا، والمروءة البدوية في اللحن والأداء) و«خايف كون عشقتك»، «مدري كيف جنّيت يا قلبي وحبّيت» و«في عيون بتبكي» (ديو مع جورجيت صايغ، التي تلاقيه أيضاً في الختام بـ«نجوم الليل تضَوّي الليل») وغيرها. لكن قبل المسرحية بقليل وبعدها، غنّى الراحل أشهر أغانيه التي تحمل كذلك توقيع زياد الرحباني («سرقني الزمان»، «حدا من البيعزّونا»، «إنتو العيد»…)، والتي تختلف عن كل ما غنّاه لسواه (وديع الصافي، الياس الرحباني، فيلمون وهبي، إيلي شويري وغيرهم… ولاحقاً سهيل عرفة) إذ كانت تحمل دائماً بصمةً خاصة، في التوزيع أو الإعداد الموسيقيّ بشكل خاص، إذ نسمع أصواتاً غير مألوفة كثيراً في هذا اللون الشعبي الشرقيّ بمعظمه (أبرزها النحاسيات في «حالف لو شو ما صار») وهذا ما تطوّر بسرعة، بالمناسبة، عند زياد، منذ تلك التجارب وبدون توقّف، بدءاً من «نزل السرور» (1974). قبل ذلك أيضاً حصلت الحادثة الشهيرة التي رواها مروان محفوظ مراراً بتحبُّب: قصة «سألوني الناس»، التي كان اسمها «أخدوا الحلوين» وكان من المفترض أن تسجَّل باسمه. مرضَ عاصي أثناء العمل على مسرحية «المحطة»، ووصل لحن الأغنية إلى مسامع فيروز والراحل منصور الرحباني فطلباها من زياد، على أن يتوّلى منصور إعادة صياغتها لتكون تحية ثلاثية للقائد الغائب قسراً عن القيادة، لأول مرّة. استأذن زياد مروان ليقدّم الأول أول لحن لوالدته، فكانت الكرزة التي سبقت قالب الحلوى.
ابتعد مروان محفوظ عن الأضواء مع تقدّم الموجة الهابطة. راح يقدّم الحفلات خارج البلاد خلال الحرب وبعدها، لكن اسمه عاد إلى التداول عندما حصل ما يحصل عادةً مع الشعوب في فترات الانحطاط: الحنين إلى الزمن المسمّى «الجميل»، حيث استضافته العديد من المحطات لاستذكار ما ذهب ولم يعُد بعد. وفي الوقت الذي تراجعت فيه قيود الوقاية الصحية، لبّى أخيراً دعوة لإقامة حفلة في دار الأوبرا في دمشق، حيث كان في انتظاره عشّاقه وخبيثٌ واحدٌ سرقه من الزمان. إنه، مرّة جديدة، الفيروس الصامد الذي حوّل صفحاتنا الثقافية إلى صفحة وفيّات. بدأنا نتعب، لكننا صامدون أيضاً. الاستسلام ليس خياراً مطروحاً، لا اليوم ولا غداً، وسنعود، «إذا مش بكرا، البعدو، أكيد» لنملأ المدرّجات والصالات ونسمع ونتعانق، ونكتب عن ولادة فنانين ومشاريع فنية… نضحك ونبكي لا حزناً، بل فرحا.