ثمّة مستوى أدنى من قاع التطبيع بكثير، إنه تحت الصفر. يبدأ فيه المطبّعون ممن يصنّفون أنفسهم (ظلماً «للفن») في خانة «الفنانين»، بالركون إلى تبريرات من قبيل «حرية الرأي والفكر»، ثم يدنون أكثر فيبرّرون مشاركتهم في أعمال إسرائيلية (كحالة بعض فناني فلسطينيي الـ48) بحجة أنه «ما من بديل»، وأن هناك أفواهاً جائعة في بيوتهم تنتظر الخبز. مع الوقت، لا يعود هؤلاء قادرين على التمييز بين طعم الرُّم وطعم الدم. وهذا الأخير ليس إلا دم أبناء جلدتهم وهم يلوكونه يومياً في الخبز المقدّم على طاولاتهم.لم يتوقف السقوط الحر لهؤلاء. أحبوا أمس «اتحافنا» بأغنية «البلد بخير»، والأخيرة ليست أغنية بالضبط. إنّها أصوات هجينة تدمج ما بين النعيق والنهيق، ولكن ليس في غابة كثيفة الشجر، بل على شاشة تلفزيون «مكان» الإسرائيلي.
ما القصة؟ مجموعة من «فنّاني» الأراضي المحتلة عام 1948 يظهرون في شريط مصوّر في إستديو «مكان» الإسرائيلي يغنون سوياً المقطع التالي: «البلد بخير الولد بخير/ لمّا بكثر التنظير/ وبقل قباله التفكير/ وبترخص حرية التعبير/... ولما بتسمع BDS/ بتصير تنوي متل البس... البلد بخير البلد بخير». قسم من هؤلاء «الممثلين» شارك في أعمال دراميّة إسرائيلية، ليست سلسلة «فوضى» (على نتفليكس) إلا واحدة من بينها. ومع عرض الجزء الأخير من السلسلة حديثاً، طاولت هؤلاء انتقادات واسعة، إذ أن «فوضى» مسلسل يؤنسن المستعرب الصهيوني على الشاشة الغربية، ويقدمه صاحب الحق في الأرض المحتلة، فيما الفلسطينيون أصحاب الأرض والحق الحقيقيون، ليسوا سوى مجموعة من «الإرهابيين والمخربين والمجرمين».
لم يكتفِ هؤلاء بالمشاركة في أنسنة من احتلّهم من خلال «فوضى»، لم يشعروا بالخجل ولا بالحاجة إلى«التوبة»، بل برّر بعضهم تلك المشاركة بأن لا بديل لهم منها، بسبب أنهم ولدوا في الأرض المحتلة، وليس هناك سوق عمل أخرى غير السوق الإسرائيلية. صحيح، ليست مشاركتهم في «فوضى» هي الوحيدة، لكنها قد تكون المحرّك الأساس لإنتاج «الأغنية»؛ حيث يشنون بوضوح هجوماً على حركة عالمية (BDS) تقود الدعوة في أرجاء العالم لمقاطعة إسرائيل، ومحاسبتها على الجرائم التي ترتكبها يومياً في الأرض المحتلة، المكان الذي يحيا فيه هؤلاء «الفنانون» بالضبط في مركز بؤرة العنصرية والتهميش.
كل هذا في كفّة وأن يتمترس هؤلاء في استديو إسرائيلي في كفة أخرى. هكذا قرّروا مهاجمة حركة المقاطعة من الشاشة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، موضحين لمن يريد التعامل مع المؤسسة الثقافية الصهيونية، وأن يطبّع ألا يخاف حركة المقاطعة، مشبهين من يقرر مقاطعة هذه الأعمال بناءً لخلفية وطنية، بأنه «يموء مثل القطط (خائفاً)»؛ إذ يقولون في الأغنية: «لمّا بتسمع BDS بتصير تنوّي متل البس (القطة) وبيصحى فيك الوطن الحس».
قد يكون من حقّ هؤلاء مناقشة معايير حركة المقاطعة، فهم حكماً يحيون في قلب النظام الإسرائيلي؛ وليسوا هم أصحاب المسؤولية في أنهم يحيون في أرضهم المحتلة فهذه أرضهم! ثم إن الكثير من المعايير التي تدعو إليها الحركة وتسري خارجاً قد يستحيل تطبيقها في الداخل. وقد لا يختلف اثنان على أن الواقع الذي يحيا فيه فلسطينيو الداخل، يبدو كأنه مشي على حبل فوق فوهة بركان. ولكن كيف انزلق هؤلاء إلى حدّ أنهم لم يحترقوا فقط، بل راحوا يستعذبون بهذه النار؟
هل ثمّة فلسطيني قادر على تبرير جرائم تُرتكب ضده؟ هل ثمّة منطق يجيز لهؤلاء المشاركة في عمل مثل «فوضى»؟ أن يخرج أحد ممثلي السلسلة ليقول إن ««فوضى» يظهر الجانب الإنساني للفلسطينيين»؟ حقاً ليست هناك درجة أكثر سفالة من أن يعتقد مستعرب (جندي إسرائيلي في وحدة المستعربين) بأن الفلسطيني بحاجة إلى الأنسنة من خلاله!