عندما وقفت توني موريسون (1931 ــــ 2019) لتلقي خطابها أمام الاكاديميّة السويدية في استوكهولم بوصفها أول روائيّة أفرو- أميركية تحصل على «جائزة نوبل للآداب» (1993)، استهلت كلامها بحكاية كما يليق بعرّافة بصيرة. حكاية عن عجوز فقدت البصر، وطائر، ومجموعة شبان أشقياء. لكن بعدما أنهت حكايتها، قلبتها كما لو كانت تقلب أحجار نرد بيديها، وأعادت سردها بشكل مختلف تماماً لتظهر لجمهور المتأنقين الذي كان يستمع إليها كيف أن انحيازاتنا المسبقة، والزاوية التي ننظر بها، وطريقة اختيارنا للكلمات تغيّر شكل العالم. عند هذه السيّدة الجليلة التي انطفأت أمس، فإن الأدب ـــ لا سيّما الرواية – يتواطأ لخلق وتكريس الهويّات المفتعلة، ومن ثم فرضها على طرفي الحالة العنصرية في الوقت عينه. والأدباء الذين يمتلكون ناصية السرد من دون أن يكسروا سقوف الوعي الزجاجيّة المفروضة عليهم، ينتهون، بشكل أو آخر، للانخراط في لعبة تأبيد العنصريّة وزيادة مستوى تعقيدها، وتعميق تجذّرها في العقل الجمعي.
موريسون كانت راوية حكايا من طراز مختلف في تجربة الأدب الأميركي في النصف الثاني من القرن العشرين. هي التي امتلكت مفاتيح سرد الحكايا، وأسرار اللغة، وسحر الكلمات. تفتّح وعيها باكراً على سجن لون البشرة السوداء الذي أودع فيه القراصنة الأميركيون عبيدهم المخطوفين من افريقيا وأبقوهم فيه رغم انتهاء العبوديّة رسمياً، فصنعت من تلاقي موهبتها والوعي، روايات صارت سجلّ ذاكرة الأقليّة الأميركيّة السوداء في النصف الثاني من القرن العشرين.
روايتها الأهم على الإطلاق «المحبوبة» (1987 ــ جائزة بوليتزر) أخذت من روحها ثلاث سنوات كاملة وهي تفكر في قصة السيدة السوداء مارغريت غارنر التي قتلت ابنتها كي لا تعيدها إلى العبودية... قبل أن تكتب منها ولو كلمة واحدة. أما روايتها الأولى «العين الأشد زرقة» (1970)، فقد نشرتها حين كانت في الـ 39 من عمرها وكانت إعادة سرد لقصة كتبتها في مراهقتها عن طفلة سوداء جعلتها الثقافة الأميركية العنصريّة تحلم بأن تكون لديها عينان شديدتا الزّرقة كي تصبح جميلة.
في كل أعمالها كما في حياتها الشخصية، شغلتها مسألة العرق والعنصريّة، فهي بالتأكيد ابنة مرحلة نهوض الأفرو- أميركيين وحركة الحقوق المدنيّة. لكنها رأت تلك المرحلة أشبه باستجابة انفعاليّة لضغوط مرحلية قصرت عن التّحول إلى تغيير جذري في نظرة الاميركي الأسود إلى نفسه، حتى قبل التحدث عن نظرة الآخر إليه. مع ذلك، كان يقلقها دوماً أن تقرأ أعمالها في إطار توقعات تنميطيّة مسبقة ككاتبة سوداء، لا كخلاصة روح امرأة وأم ومواطنة وانسانة.
موريسون التي عانت لوقت طويل من حصار غير معلن لأعمالها من قبل متاجر الكتب لنبرتها العالية في الاحتجاج ضد العنصريّة، ظلّت دائماً مع ذلك ابنة مخلصة للنظام الأميركي، وعملت في إطار أرفع مؤسساته الثقافية والأكاديمية، وحازت أرفع التكريمات التي يمكن أن تمنح لكاتب أميركي مقرّب من النخبة بما فيها ميداليّة «الحريّة» الرئاسية من الرئيس أوباما (2012). منتقدوها اعتبروا أنها تعاملت مع مسألة العنصرية كعيب أخلاقي وفكري في تكوين العقل الأميركي من دون المساس بأسس الهيمنة الاقتصادية – الاجتماعية للنخبة. لكنها في كتاباتها الأخيرة اعترفت بأن الهويّات الموهومة التي يختلقها بشر لنزع الأنسنة عن «الآخر»، دافعها تبرير الاستغلال الاقتصادي أساساً، وخلق تحالفات عابرة للطبقات تضمن ديمومة الهيمنة القائمة عبر تعايش الجميع مع الوهم في تجربة عيش بائسة: ساديّة تسمم قلوب أصحابها في طرف، ونزوع ذليل لتقمّص سرديّة النخبة التي تسحق البشر على الطرف الآخر... لينتهي المجتمع كأنه مستنقع من سايكوباثيين أوغاد بألوان متعددة.