لم تسلم كاترين الجمل هذه المرة من الموت. قبل نحو أربعين عاماً، تغلّبت عليه عندما هاجمها شخصان حيث كانت تسكن وحدها في دير سيدة الناطور عند بحر أنفة (شمال لبنان). برغم ما تعرّض له جسدها الصغير من ضربات مدمية، استطاعت أن تزحف لعشرات الأمتار حيث شاهدها جنود كانوا يتمركزون في محيط الدير، فنقلوها إلى المستشفى. يوم الأحد الفائت، تفرّد بها الموت بعد شهر على تدهور صحتها. استسلام الراهبة التي نذرت حياتها لحراسة وتأهيل الدير الأثري بمفردها، كان متوقعاً لدى عارفيها من أهالي أنفة والجوار. خلال العام الأخير، صار جسدها المتّشح بالسواد، يزداد نحولاً ويتعثر بالقهر والحزن. والسبب إحياء مشروع «ناطور» الذي يقضي بتشييد منتجع سياحي في أراضي الوقف التابعة للدير، سيحاصر المعلم الديني ويهدد ما تبقى من الملاحات التراثية في محيطه. ناطورة أنفة عاشت في الدير أكثر مما عاشت في مسقط رأسها الميناء في طرابلس. برغم أنّه كان مهجوراً، لكنها قرّرت في خريف عام 1973 أن تبذل خدمتها في الدير بجوار الشاطئ الصخري. «أنا مثل صخرة على طرف البحر تلطمها الأمواج والعواصف، لكنها ثابتة لا تتزعزع». هكذا كانت تعرّف عن نفسها وتفسر سبب صمودها في الدير المقفر بعد آثار التدمير التي لحقته خلال الحرب الأهلية وفي الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقبلها بسبب الزلزال. أقرّت بأنّ هناك سرّاً لكل من اختار الإقامة فيه. تتحدّث الروايات الشعبية عن رجل ثري سكن فيه ليكفّر عن خطاياه ورمى مفتاح خزنته في البحر وربط العثور عليه مجدداً بغفران الله لخطاياه. ظل ناطوراً على الدير لسنوات برغم العثور على المفتاح في شباك الصيادين. وتيمناً به، سمي الدير بـ «الناطور». وفي الأربعينيات، أقام فيه أديب روسي يُدعى ألكسي دوستوفسكي حتى أوائل السبعينيات. ينسب له الأهالي إنشاء أول دولاب هواء يعمل على البطارية، لتشغيل الملاحات. أما الجمل، فلم تفشِ أسرارها، لكنها قرّرت أن تكشف أسرار الدير التاريخية الذي شيده الرهبان السيسترسيان في العهد الصليبي في عام 1115، فوق كنيسة بيزنطية ارتفعت فوق كهف تغمره المياه. قررت ترميم جداريات الكنيسة التي رسمت في القرنين الحادي والثاني عشر، وناعورة المياه التي تعود للعهد الروماني. وللغاية، افتتحت مشغلاً لخياطة وتطريز أثواب الرهبان لتوفير تكاليف الترميم. لكن الحرب الأهلية عطلت مشروعها وأحرقت مشغلها وأقساماً من الدير. في التسعينيات، جددت ورشة الترميم بالاستعانة برهبان فرنسيين وروس. «كثر خيري، ظبطت الدير من دون أن آخذ ليرة واحدة من المطرانية»، كانت تقول.
أوّل من أمس الاثنين، ووريت كاترين في الثرى في مدفن الرهبان الذي افتتحته في إحدى زوايا الدير. حول جثمانها، تحلّق أهالي أنفة والكورة على وقع آخر وصاياها: «خبّروا أنّ الراهبة ضد المشروع السياحي وتشكو الله كل من وقّع عليه وتصلي لئلا ينجز. ولو قالوا لي غادري الدير، سأغادر مش فارقة معي».

* تُقبل التعازي اليوم الأربعاء في صالون الدير بين الساعة الثالثة بعد الظهر والسابعة مساءً. وفي التوقيت نفسه غداً الخميس في صالون كاتدرائية القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في الميناء (طرابلس ــ شمال لبنان).