في إحدى قاعات «الأكاديمية السورية الدولية للتطوير» (نزار ميهوب) وضمن المؤتمر الصحافي الذي عقد لإطلاق «دبلوم الإخراج التلفزيوني والسينمائي»، وقف رجل وراح يتحدّث بلهفة. نبرة صوته كانت ترنو على عشق عميق لمهنته. حماسته تجعل مستمعه يحار في عمره. هل حقاً هذا الرجل تجاوز السبعين، أم أنّ طاقته تكشف عن شاب في مقتبل العمر يحمل رصيداً من الإقبال يخوّله مقارعة الصعاب من قادم الأيام؟ ذاك الرجل كان غسّان جبري (1933 ــــ 2019)، في لحظة ربّما تكون آخر ظهور علني وعام له. يومها، حكى عن حلمه بالإخراج، وردّد وصاياه بثقة خبير على مسمع طلاب الدبلوم كعرّاب، ومؤسس للمهنة، لكن غلب تواضعه اعتداد «المعلّم»، وهو اللقب الذي يستحقه سورياً بجدارة. أمس الخميس، رحل المخرج المخضرم وأحد مؤسسي الدراما السورية. طوى عمره وعاشه بالطول والعرض، محققاً كلّ ما يطمح إليه فنان عربي، قبل أن يتلمّس طعم الكِبر. وربّما عانى من إحساس التقاعد، لذا كان الموت أرحم! الرحيل حنان على المبدع عندما يفقد منبراً يتجلّى فيه عطاؤه. مشواره قديم ووقور يشبه الشيب الذي غزا شعره منذ وقت طويل. بدأه بعدما درس الحقوق في دمشق وتخرّج سنة 1962، ثم عرف أنّ القانون الأميز الذي يمكن أن يحكم حياته هو التمرّد على القوانين وإطاحة التقاليد البالية، وهدم التابوهات، والشغل بالفن في زمن كان فيه حراماً والعاملون فيه «زنادقة». هكذا، بدأ غسّان الدرب من أوّله. المسرح كان الهداية والمصير. اشتغل مساعداً لأحد معلّمي الإخراج المسرحي رفيق الصبّان، وأنجز معه مسرحيات منذ مطلع الستينيات. كما كان قبل ذلك عضواً مؤسّساً في «ندوة الفكر والفن» (1958) التي كانت تضم أشهر مثقفي دمشق، من بينهم الموسيقار صلحي الوادي، والممثل يوسف حنا، والأديب زكريا تامر. ثم اشتغل في التلفزيون وتسلّم مهمات عدّة، منها رئيس دائرتي التمثيليات والمخرجين.
في زحمة كل ذلك، سلك درب التعليم الأكاديمي في «المعهد العالي للفنون الدرامية»، ومن ثم مركز التدريب التابع لـ«جامعة الدول العربية». أُرسل بعدها إلى ألمانيا في دورة تدريبية استمرت ستة أشهر، ليحصد لاحقاً جوائز عدّة، منها: شهادة تقدير «مهرجان بغداد» (1972) عن تمثيلية «الغرباء لا يشربون القهوة»، وأخرى من «نقابة الفنانين» في 1993.
أما عن أعماله التلفزيونية التي سحبت بساط الجماهيرية وخصصت له مكانة راسخة في الذاكرة الجمعية والوجدان الشعبي، فكانت منذ أيام الأبيض والأسود في «حكايا الليل» (1972 ــــ كتابة محمد الماغوط) و«انتقام الزباء» (1974 ــــ كتابة محمود دياب)، ثم «لك يا شام» (1989 ــــ كتابة خيري الذهبي) و«القيد» (1996 ــــ كتابة نبيل الغربي) و«النصية» (1998 ــــ كتابة فؤاد شربجي)، فأشهر أعماله «الطير» (1998 ــــ كتابة نبيل الغربي)، قبل أن يقدّم آخر أعماله سنة 2006 بعنوان «أعيدوا صباحي» (كتابة عدنان ديوب).
على الرغم من أنّ العزاء اشتعل سريعاً على فايسبوك وتناوب نجوم الدراما السورية على نعيه، ربّما يكون الممثل السوري الشاب مؤيد الخرّاط أصدق من يقول شهادة بحقّه، رغم فارق العمر الكبير بينهما. فهو تتلمذ على يديه عندما كان في الثالثة عشرة من عمره وقدم معه دور بطولة في مسلسل «الطير» ليكون مفتاح حياته المهنية.
في اتصاله مع «الأخبار»، يقول مؤيد: «منذ أن سمعت خبر رحيله تداعت الصور بوفرة على ذاكرتي. سمعت صوته وهو يقول لي في اللقاء الأوّل: أنت خجول كثيراً يا عم! ثم تذكرت خطواته المتلاحقة لتخليصي من هذا الخجل وصناعة مادة خام لممثل محترف في ما بعد». ويضيف: «أتذكّر إصراره على تسمية التمثيل باللعب. لم أكن أعي ذلك حينها، لكنني عرفت لاحقاً كيف تلعب لتمتع المشاهد. الرجل مدرسة حقيقية، وكلما نفقد واحداً من جيل المخضرمين المؤسس، فإننا نفتقد مدرسة جديدة، بغضّ النظر عن الأكاديميات. هناك تقاليد مهنية وضعها هؤلاء، صيغة محبوكة بطريقة ممنهجة. لا أتذكر أنه كان يعطي ملاحظة لممثل على الملأ إلا بأسلوب مرح وبطريقة الدعابة». وختم بأنّ «الصراخ والاستعراض شيء يجافيه بالمطلق. على زمانه، كانت بروفة الطاولة هي السلوك المميز الذي يضع الممثل في الحالة النفسية للشخصية ويمهد الطريق أمام السوية الأدائية. هذا الرجل علّمني كيف أكون عفوياً، وفقدانه مؤلم ومؤسف. أتمنى لذويه الصبر والسكينة».

* وُوري أمس في ثرى مقبرة «باب الصغير» في دمشق. تقبل التعازي اليوم في صالة «دار السعادة للمسنّين» بين الساعة السابعة والنصف مساءً والتاسعة والنصف.