لندن | إذا كان ثمّة إسرائيلي تجسِّد حياته تاريخ الكيان العبري المفتعل في الشرق، فلن يكون سوى الروائي عاموس كلاوسنر (1939 ــ 2018) الشهير بعاموس عوز الذي توفي أخيراً عن 79 عاماً. الراحل ولد في القدس لأب ليتوانيّ وأم بولنديّة هاجرا إلى «أرض الميعاد» نحو الـ «إسرائيل» التي كان المحتل البريطاني حينها قد استكمل تقريباً تأسيس بنيتها دولةً حديثة لليهود على الأراضي الفلسطينية. وقد فجع عاموس عندما كان فتى بانتحار والدته التي يبدو أنها لم تجد القوّة لمواجهة وحشة الاغتراب والعيش في مجتمع «اليهود الجدد» الذي كانت الحركة الصهيونيّة تحاول خلقه عبر تجربة هندسة اجتماعيّة لا إنسانيّة من خلال صهر مجموعات قوميّة متفاوتة في ثقافة مؤسطرة لدولة دينيّة الطابع زرعتها الكولونيالية الأوروبيّة كرأس جسر شرقي المتوسط على حساب السكان الأصليين وأصحاب الأرض. بلا أمه، انتهى عاموس إلى حياة الكيبوتز، وهي معسكرات عيش جماعي اشتراكي الطابع، مثلت إحدى أهم أدوات المشروع الصهيوني لتكوين «اليهودي الجديد» إيديولوجياً. وبالفعل، عكست حياته لاحقاً نتاج تلك التجربة. إذ كان دائماً مزارعاً وجندياً وأديباً في آن واحد، تماماً كما الشخصية الصهيونية المثاليّة المغرقة في رومانسيتها. فهو تَسمَّى بعوز (أي القويّ بالعبرية) أيّام عمله في الكيبوتز. وخدم لاحقاً في الجيش الإسرائيلي في حرب 1967 وفي 1973 أيضاً. كذلك نشر كتابات عدة جلبت إليه الانتباه باكراً قبل أن ينشر سيرته الذاتيّة «قصة عن الحبّ والظلام» التي أصبحت أكثر الأعمال الروائيّة الإسرائيلية مبيعاً في تاريخ الدولة العبرية (القصير)، ويراها النقاد سرداً أدبياً لسيرة نشأة «إسرائيل» ذاتها.
أعماله الروائيّة المتتابعة تكاد تكون إعادة صياغة للحبكة ذاتها: علاقات غرام متداخلة، وشبق مكتوم وميول أوديبية تشكل أجواء عيش شخصيات أبطاله الـ «هاملتيّة» الطابع والمترددة دائماً خلال رحلة كشف سرّ معتّق أو فضيحة مدفونة، وغالباً في فضاءات مكانيّة شيزوفرينية تشبه تجربة عيش اليهودي الأوروبي المهاجر في بيوت عربيّة مسروقة في القدس. لعل روايته الأخيرة «جوداس» أو «يهوذا» (2017) كانت صوغاً نهائياً لتلك الحبكة التي كأنها ترى في «اليهودي الجديد» فرانكشتاين يهودياً: ملفقاً لكنه حيّ، وميتاً لكنه يحتفظ بمشاعر إنسانيّة عميقة. ظلّ عاموس قريباً من المؤسسة الأشكنازية العنصريّة المهيمنة على بقيّة المجتمع الإسرائيلي من اليهود الشرقيين، حتى عدّه كثيرون الناطق الأدبي باسمها. وكان صديقاً مقرباً للساسة الإسرائيليين، ولا سيّما شمعون بيريز الذي كثيراً ما كان يلتقيه للاستئناس بآرائه كـ «نبيّ يرى المستقبل». وهو بتجربته الشخصية عبر نشأته في القدس غريباً، رغم أنها مسقط رأسه، أدرك مبكراً خطورة تجربة الاحتلال في شق وعي اليهود الجدد تجاه العالم. لذا، رغم مشاركته في القتال جندياً عام 1967، فإنه كتب ينصح الإسرائيليين بترك المناطق المحتلة تجنباً للوقوع في فخّ نفسيّ عميق. وقد حاولت المؤسسة الإعلامية الغربيّة دائماً تسويقه كـ «حمامة سلام» عبرانيّة، إلا أنّه لم يخف يوماً انحيازه المطلق إلى المشروع الصهيوني، مدافعاً عن «حق اليهودي الذي أغرقه الهولوكوست في التعلّق بقشّة نجاة، ولو على حساب الفلسطينيين». أيضاً، دافع بحرارة بالغة عن حروب إسرائيل العدوانيّة على لبنان وغزّة، وكان قبل موته من أبرز الأصوات الداعمة لقرار نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس، داعياً أمم العالم إلى حذو حذو الرئيس دونالد ترامب.
مع تواضعه المصطنع، كان عوز يستطيب محاولة اليمين - الغالب على توجهات الإسرائيليين في العقد الأخير - تصويره كليبرالي معاد للأصوليّات. وللحقيقة، إن موته يمثل نهاية رمزية لتيار صهيوني واقعي كان في وقت ما جزءاً من الجيل الإسرائيلي المؤسس، ويرى إمكان تحقق مشروع إسرائيل وديمومته على المدى الطويل عبر نوع من تعايش - وإن فوقيّاً - مع محيطه العربي والفلسطيني حكماً. هذا التيار تقلّص اليوم إلى حدّ الانقراض في ظلّ الشوفينية المتصاعدة في المجتمع الإسرائيلي. ولم تعد هناك شخصيات مؤثرة فيه ممن ترى جدوى تقديم تنازلات بعدما تكفل الراعي الأميركي بإضعاف الدول العربيّة واحدة تلو الأخرى، ودفعها سراً وعلناً إلى الإقرار بالهيمنة العبريّة على المنطقة. غياب عوز، نهاية شكسبيريّة لتجربة فشلت.