بأناقة تنظيمية لافتة وبتوجّه فني محترم، ولو ببرنامج متواضع نسبياً، ظهر مهرجان Les Musicales de Baabdat السنة الماضية لينضم إلى لائحة الأنشطة الموسمية القليلة المماثلة. في الدورة الأولى، اقتصر البرنامج على ثلاث ليالٍ وضمّ موسيقيين لبنانيين وأجانب، في حين توسعت قليلاً الدورة الحالية التي تنطلق الليلة لتمتد على خمسة أيام.
قبل أكثر من ربع قرن، تأسس «مهرجان البستان» الشتوي الذي يعِد السنة (شباط/فبراير — آذار/مارس 2018) بدورة استثنائية يحتلّها من ألفها إلى يائها العبقري والمبدع والمهندس الموسيقي الأكبر يوهان سيباستيان باخ (1685 — 1750).
بعد «البستان»، على منواله توجّهاً جزئياً (معظم الأمسيات كلاسيكية غربية) وامتداداً (عدد أمسيات متقارب)، ولكن على نقيضه لناحية إمكانية ولوج أمسياته (بطاقات تراوح بين متوسّطة وباهظة الثمن مقابل دخول مجّاني)، تأسس منذ عشر سنوات مهرجان «بيروت ترنّم» الذي تطوّر بسرعة تستحق التحية ويعِد أيضاً ببرنامج استثنائي في دورته العاشرة (كانون الأول/ديسمبر المقبل). إلى هذه الفئة تحديداً ينتمي مهرجان «موسيقيّات بعبدات» (ترجمة تقريبية لعنوانه الفرنسي المعتمد رسمياً)، مع ميزة تجمعه بـ «بيروت ترنّم» لناحية مجّانية الدخول إلى أمسياته التي تمتد هذه السنة بين مساء اليوم و31 الجاري.
تأسس المهرجان المتني الخريفي الجديد على يد مجموعة من المتطوّعين، بين هواة موسيقى ومحترفين، يجمعهم شغفهم الفني وهمّهم في نشر الموسيقى الكلاسيكية، الجاز والموسيقى الإثنية، على ما جاء في التعريف الذي يشرح أهدافهم على الموقع الإلكتروني الخاص بالمهرجان. لكن، كما «البستان» (لناحية الجاز والموسيقى الإثنية) و«بيروت ترنّم» (لناحية الموسيقى الإثنية)، لا تحضر الأنماط الثلاثة المذكورة بالتساوي، بل بشكل عرضي لصالح الكلاسيك الغربي الذي يطبع هوية المهرجان بشكل أساسي. انطلقنا في السطور الآنفة من مقارنة «موسيقيّات بعبدات» بشبيهَيه العريق (البستان) والمكرَّس (بيروت ترنّم) باعتبار أن ملامح الأخيرَين التنظيمية والفنية باتت معروفة من الجمهور، ما يتيح، بالتالي، تكوين صورة مقبولة عن المولود الجديد.
قبل سرد البرنامج بفنانيه والأعمال التي سنسمعها منهم، ملاحظة أخيرة تخص «الخزّان» الذي يغذي المهرجان بالأسماء التي تحيي أمسياته. من الواضح، محلياً («البستان» وغيره من المهرجانات أو الجهات التنظيمية التي تُعنى بالكلاسيك الغربي بشكل دوري أو موسمي) وحتى عالمياً (المهرجانات الكلاسيكية الأوروبية الغربية التي تتحاشى الأسماء الكبيرة ونجوم الكلاسيك) أن أنظار المنظمين تتجه أكثر فأكثر نحو بلدان أوروبا الوسطى وأكثر منها تلك الشرقية، لدعوة الموسيقيين المنفردين أو الفرق الصغيرة أو حتى الأوركسترات السمفونية والفلهارمونية. والسبب ليس خافياً على أحد: مستوى فنّي رفيع مقابل بدل مادي زهيد وبخيارات ــ كماً وتنوّعاً ـــ هائلة. مثل واحد يشرح هذه المسألة: يمكن إيجاد مئات عازفي البيانو أو مغنّي الأوبرا الممتازين وغير المتطلّبين مادياً في البلدان الاشتراكية السابقة، بعدما عاشت هذه الشعوب عقوداً في ظلّ أنظمةٍ وضعت الفن في صلب سياستها الداخلية لبناء مجتمعاتها.
في هذا السياق، لم يخرج «موسيقيّات بعبدات» عن هذه «القاعدة» التنظيمية، إذ نجد أن حصة الأسد في البرنامج حجزها فنانون من روسيا، بعدها أرمينيا ثم لبنان بطبيعة الحال. هذا لم يمنع أن تفتح الدورة الثانية، الليلة، مجموعة مختصّة بموسيقى الباروك آتية من السويد، تتألف من 5 آلات «باروكية» بامتياز، هي الريكوردر (الفلوت الخشبية)، الهاربسيكورد، الكمان، التشيلّو والتيورب (آلة وترية لم تعد مستخدمة في التأليف بعد القرن السابع عشر)، أما البرنامج فمتوقّع: تيليمان، كوريلّي، فيفالدي، ماريه… يليها غداً الثنائي اللبناني/ الأرمني إيهاب جمال (كمان — ألمع اسم محلّي من الجيل الجديد) وليانا هاروتونيان (بيانو) لأداء شومان، موزار، بيتهوفن، تشايكوفسكي وباغانيني. أمسية بعد غدٍ حُجِزَت للمقتطفات الأوبرالية (بياريتون وسوبرانو بمرافقة بيانو) مع ثلاثي روسي سيؤدّي فيردي، فاغنر، بوتشيني… تليها في 30 الجاري أمسية لعازف الأكورديون الأرمني هايك مليكيان (الصورة) في أداء منفرد لأعمال (مُوَلّفة من أشكال أخرى) تنتمي إلى المعاصر (كزيناكيس) والانطباعي (دوبوسي) و«التأمّلي» (غوردجييف) والسوفياتي/الأرمني (خاتشادوريان). هكذا يختتم المهرجان نهاية الجاري مع مجموعة وتريات سداسية يزيّنها البيانو. الموسيقيون من روسيا، أما البرنامج فيتقاسمه ثلاثي الباروك الشهير (باخ، فيفالدي وهاندل) والكلاسيك المجبول بالتانغو (بياتزولا).

Les Musicales de Baabdat: بدءاً من السابعة والنصف من مساء اليوم حتى 31 تشرين الأول (أكتوبر) ـــ كنيسة مار أنطونيوس البداوني (بعبدات)