هاشم المدني (1928 ــ الصورة)، آخر رعيل الفوتوغرافيين الأوائل في لبنان، أغمض عينيه، يوم الاثنين الماضي إلى الأبد. في أحد مستشفيات مدينة صيدا (جنوب لبنان)، رحل المدني الذي بقي محتفظاً بذاكرته الصلبة حتى أيّامه الأخيرة، رغم ضعف جسده الذي أنهكه العمر.
وحتى الرمق الأخير، تمسّك هاشم بـ«استديو شهرزاد» الذي أسّسه في عام 1952 في مبنى «شهرزاد» في شارع رياض الصلح في عاصمة الجنوب، و«الوحيد من نوعه في لبنان»، حسب ما يؤكد أكرم زعتري (1966) في حديث إلى «الأخبار». الفنان البصري والمخرج اللبناني الذي سلّط الضوء على أرشيف المدني الغني والكبير (بحيازة «المؤسسة العربية للصورة» التي شارك زعتري في تأسيسها)، أوضح أنّ الراحل واظب على زيارة الاستديو الذي أعيد تأهيله بعدما طاله الاجتياح الإسرائيلي لصيدا في عام 1983 بقدر ما سمحت له طاقته الجسدية، وأصرّ على «إبقاء المكان كما هو بكل تفاصيله، وعلى التمسّك بهذه المهنة التي ماتت بشكلها التقليدي بسبب التغييرات التي طرأت عليها. لا يوجد لهذا الفضاء مثيل في مختلف أنحاء البلاد». علاقة أكرم بهاشم ليست عاديةً، ولا مهنية فحسب، بل يمكن القول إنّها صارت شخصية وعميقة! منذ عام 1999، بدأ أكرم زعتري أبحاثه حول «استديو شهرزاد» ومحتواه وصاحبه، الأمر الذي شكّل مفترق طرق في مسيرته الأركيولوجية، وأثمر أعمالاً كثيرة. فإلى جانب المعارض في لبنان وخارجه، هناك إصداران مهمّان هما: Hashem El Madani: Studio Practices (عام 2004)، و«هاشم المدني ـــــ نزهات» (2008)، إضافة إلى الفيلم الوثائقي «28 ليلاً وبيتاً من الشعر» (105 د). تسع سنوات، هي المدّة التي استغرقها العمل على هذا الشريط الذي أبصر النور في 2015، وينطلق من صور فوتوغرافية حصل عليها زعتري في 1999 من «استديو شهرزاد». أما الجوانب الأساسية التي يتناولها، فهي: «فكرة الأرشيف، وكيفية إعادة استخدامه، وولادة مقاربة جديدة لهذه المادة بعد مرور الزمن من خلال إعادة خلقها بواسطة ربطها بالحاضر والأحداث الآنية...»، حسب ما صرّح زعتري سابقاً لـ«الأخبار». يؤكد أكرم زعتري أن وفاة المدني تشكّل «خسارة لمرجع في مجال الصورة الفوتوغرافية»، مشيراً إلى أنّه لا يعرف ماذا سيكون مصير «استديو شهرزاد» بعد اليوم، آملاً أن يُحافظ عليه.
الرجل المتزوّج بالصيداوية «حلمية ترياقي»، ولديهما ثلاثة أولاد: مها، محمد وعبد اللطيف، التقط على مدى عقود «صوراً صارخة، ومتجذّرة، وفردية لمواطنين لبنانيين، عاكساً مشهداً سياسياً وثقافياً متغيّراً»، على حد التعبير الذي استخدمته «المؤسسة العربية للصورة» في النص الذي نعت فيه الراحل أخيراً على موقعها الإلكتروني.
منذ عام 1948، واكب المدني مدينة صيدا التي حطّ فيها عائداً من فلسطين، بعدما تعلّم هناك أصول مهنة التصوير على يد المصوّر الأرمني «كاتس»، ثم المصوّر إبراهيم الحمودي في طولكرم. هكذا، راح بدءاً من عام 1952 يستقبل الناس في «استديو شهرزاد»، تاركاً لهم حرّية اختيار الـ«بوزات» التي يفضّلونها، مع العلم بأنّ هناك من يشبّه أسلوب عمله ببورتريهات أوغوست ساندر، وبطريقة عمل سيدو كيتا ومالك سيديبي، الذين سجّلواً أيضاً تفاصيل منطقة جغرافية تبدّلت فيها الأعراف الاجتماعية جذرياً.
ولعلّ ما قالته «غاليري صفير ــ زملر» في بيان يعتبر اختصاراً لمسيرة هذا الكبير: «أعماله حكت قصصاً عن أوقات مفقودة، وأصوات غير مسموعة، وجوانب مجهولة من تاريخ صيدا. كل لقطة في أرشيفه المكثّف والغني تُظهر لطفه، وخفّة ظلّه، وإنسانيته. سنفتقده كثيراً»!