إذا جردنا النشاط الموسيقى الحيّ في لبنان على مدى أربعة أشهر، أي منذ شهرين وخلال الشهرين المقبلَين، نجد أن الموسيقى العربية/ المحلية (وهذا لا يشمل نجوم ساحة الانحطاط) والموسيقى الكلاسيكية الغربية تتقاسمان الروزنامة بكاملها تقريباً.
النمط الثاني ينقسم بدوره إلى لائحتَين: الأولى تندرج فيها النشاطات الكلاسيكية «المحلّية الصنع»، فيما تندرج في الثانية الأسماء الأجنبية التي تزور لبنان لإقامة أمسياتها. إلى اللائحة الأولى، تضاف أمسية الثنائي اللبناني باسل البابا وأندرو حدّاد اللذين يقدّمان ريسيتالاً مشتركاً في العزف الكلاسيكي على البيانو. عموماً، عندما نقرأ اسمَي عازفَي بيانو في أمسية واحدة، يكون البرنامج مؤلفاً من أعمال كُتِبَت لعازفَي بيانو أو لآلتَي بيانو أو الاحتمالَين معاً. غير أن الثنائي اللبناني الشاب يقترح شكلاً غير مألوف في هذا النوع من الموسيقى، إذ لن يعزفا معاً على بيانو واحد أو على آلتين، بل سيتناوبان على تقديم برنامجٍ «ضخم» قلّما يجرؤ عازف بيانو على تنفيذه منفرداً في أمسية واحدة. فالحدث الذي تستضيفه قاعة «أسمبلي هول» (الجامعة الأميركية في بيروت) مساء اليوم يحمل عنوان Lisztomania، بما أنه مخصّص لفرانز لِيسْت (1811 ــ 1886) فقط، وهو أشهر من أن يُعرَّف في عالم البيانو عموماً وقرية الصعوبة تحديداً.
للكاهن المجري حوالى 350 عملاً (معظمها للبيانو المنفرِد، وإذا أضفنا مؤلفات الآخرين التي أعدّها أو نقلها إلى البيانو، تبلغ ضعف العدد المذكور)، حاول فيها دفع مسألة التعقيد إلى حدود لم يتخطّها كثيرون بعده. أيضاً، نجد في ريبرتوار الرجل درجات من الصعوبة (التي قد لا تكون تقنية أحياناً، بل تعبيرية، وهذه أصعب أشكال الصعوبة)، لكن تبقى سوناتته الوحيدة (من حركة واحدة تدوم حوالى نصف ساعة) في قمة هذا الهرم من الإعجاز التقني والتعبيري. أنهى «دون جوان» المؤلفين هذا العمل عام 1853 وأرسله عام 1854 إلى زميله الألماني العاشق الرقيق روبرت شومان (1810 ــ 1856). لكن الأخير لم يتسلّم الهدية، إذ كان قد أدخِل المصحّ العقلي. هذه السوناتة، التي يمكن أن يمتد الحديث عنها لصفحات، تعتبر خلاصة هذا الشكل الموسيقي (السوناتة)، إذ تلخِّص الحقبة الرومنطيقية، بطبيعة الحال، وتلقي نظرة على باخ وتمهّد للانطباعية الفرنسية. فيها الريبة والشك، الجنون والفوضى والشعوذة، التأمل والانخطاف، الثورة والغضب… وهي تشكّل محور برنامج الأمسية الـ«لِيسْتيّة» في «الأميركية» وسيتولّى أداءها باسل البابا (الصورة) إلى جانب عملٍ، يقع على نقيضها، وهوSarabande & Chaconne وهي إعداد يحمل توقيع لِيسْت لمقتطف من عمل أوبرالي للمؤلف الألماني هاندل.
أما أندرو حداد، وهو كما زميله، من تلامذة الراحلة زفارت سركيسيان، فيؤدي مقتطفتَين من العمل الشهير «سنوات الحج»، إضافة إلى Légende No. 2، وأخيراً، أشهر مقطوعة للمؤلف المجري على الإطلاق، الرابسودي رقم 2.
من قد تفوته هذه الأمسية المميّزة أو من قد يرغب في الاستمتاع مجدداً بأعمال فرانز لِيسْت، يمكنه أن يلاقي باسل وأندرو اللذين سينتقلان إلى Stark Creative Space (الكسليك) عند السابعة والنصف من مساء السبت 11 شباط (فبراير) الجاري.
نختم المقالة بملاحظة ناجمة عن مراقبة هذا الجيل من عازفي البيانو المحلّيين، أمثال باسل البابا وأندرو حدّاد ومهتدي الحاج وغيرهم. لقد قدّم هؤلاء أمسيات عدّة طغت عليها الأعمال الرومنطيقية (ولفرانز لِيسْت حصة كبيرة منها)، وعليهم الآن الالتفات إلى ريبرتوار المعلّم الكبير باخ، والخيارات كثيرة، من «تنويعات غولدبرغ» و«المتتاليات الإنكليزية» و«المتتاليات الفرنسية» و«البارتيتات الست» إلى «الكونشرتو الإيطالي» والـ Inventions والـ Art of Fugue… وإن تعاونوا مع الأوركسترا الوطنية، يمكن إضافة كونشرتوهات البيانو، التي قد تجرّ بدورها أعمال موزار من الفئة ذاتها، وهو ملكها تاريخياً.

Lisztomania لباسل البابا وأندرو حدّاد: اليوم ــ الساعة الثامنة مساءً ــ قاعة «أسمبلي هول» في «الجامعة الأميركية في بيروت» (بلس ــ الحمرا). الدخول مجّاني.