بعد رحلة استغرقت عاماً مع المرض الخبيث، غادر المسرحي المنصف السويسي (1944 ـــ 2016/ الصورة) خشبة الحياة وودّع أصدقاءه وتلاميذه ومحبّيه بعد مسيرة 72 عاماً أمضى حوالى ستين منها على الخشبة، ولم يعرف خلالها الراحة ولا الملل من الفن الرابع الذي كان يعتبره حياته.يعدّ المنصف السويسي مؤسس أوّل فرقة رسمية محترفة للمسرح في مدينة الكاف (شمال تونس) قبل خمسين عاماً، كما أنّه مؤسس «المسرح الوطني»، و«أيّام قرطاج المسرحية». هو أيضاً الذي أشعل شرارة «الثورة المسرحية» في تونس ضمن ما عُرف يومها بـ «بيان 11» وهم مجموعة من الشباب ثاروا سنة 1966 على مسرح السلطة، معتبرين علي بن عيّاد أب المسرح التونسي الحديث ومدير الفرقة المسرحية الرسمية الوحيدة وقتها «فرقة بلدية تونس للتمثيل» ممثلاً للمسرح الرسمي. وكان هؤلاء الطلبة مفتونين بالمعلم الألماني بريتولد بريشت، من بينهم المنصف السويسي، وتوفيق الجبالي، وتوفيق عبدالهادي، وعبدالله رواشد، وعلي اللواتي، والناصر شمُام، والهادي الخليوي، وأحمد المراكشي، ويوسف الرقيق، وأمحمد الغربي، وفرج شوشان. طالب هؤلاء بمسرح «الآن وهنا»، مسرح ذو أفق يساري، يشبه المجتمع التونسي في تطلّعه إلى الكرامة والحريّة والديمقراطية.
المنصف السويسي الذي وُلد في باب سويقة الحي الشعبي الشهير في قلب مدينة تونس العتيقة، تشبّع بالمسرح منذ طفولته. كان والده المناضل الوطني والصحافي عزالدين السويسي ناشطاً في فرق مسرح الهواة التي لعبت دوراً حيوياً في مقاومة الاستعمار الفرنسي من أشهرها فرقة «الكوكب التمثيلي». بعد تخرّجه من «مدرسة التمثيل العربي» (أوّل مدرسة رسمية للمسرح في تونس قبل تأسيس «المعهد العالي للفن المسرحي»)، سافر إلى فرنسا، والتحق بورشات تدريبية لدى رائد المسرح الشعبي الفرنسي جان فيلار (1912 ــــ 1971).
بعد عودته إلى تونس في ظرف سياسي متوتّر في أواسط الستينيات، عُيِّن في مدينة الكاف مديراً لأوّل فرقة مسرحية رسمية تابعة لوزارة الثقافة. وعلى رغم غياب الإمكانات المالية والتقنية، إلا أنّه حوّلها إلى عاصمة للمسرح تقود مساراً مسرحياً مناقضاً لمسار علي بن عيّاد و«فرقة بلدية تونس» التي كان توجّهها الأساسي المسرح الكلاسيكي.
في الكاف، فتح السويسي الباب للشباب المسرحي وكان وراء اكتشاف عدد من الممثلين الذين أصبحوا نجوماً في ما بعد، أمثال لمين النهدي، وعيسى حراث، وسعاد محاسن، وناجية الورغي. وكان أوّل عمل يقدّمه الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري والمنصف الصائم، ورجاء بن عمار، ورجاء فرحات، وسمير العيادي في الكاف مع المنصف السويسي قبل تحوّلهم إلى قفصة وتأسيس «فرقة مسرح الجنوب» في مطلع السبعينيات التي كان السويسي مهندسها أيضاً.
قدّم المنصف السويسي عشرات الأعمال من أشهرها «الهاني بودربالة»، و«رشمون»، و«الحلاج»، و«ثورة الزنج»، و«عطشان يا صبايا»، وافتتح «مهرجان الحمامات الدولي» بأعماله أكثر من مرّة، خصوصاً الأعمال التي كتبها سمير العيادي وعزالدين المدني.
بعد مغادرته الكاف، عُيِّن مديراً لأعرق فرقة تونسية محترفة أي «فرقة بلدية تونس للتمثيل» بعد وفاة علي بن عياد. آنذاك، قام بأوّل جولة للمسرح التونسي في المشرق العربي دامت شهراً بين الكويت وقطر والعراق وسوريا. بعد عودته، عُزل من إدارة الفرقة وسافر من جديد إلى الخليج ليعمل في التدريس في الكويت والإمارات العربية المتحدة. ومن أشهر أعماله في الخليج «باي باي لندن».
عاد المنصف السويسي إلى تونس بطلب من رئيس الوزراء في الثمانينيات محمد مزالي. حال عودته، سعى لتأسيس المسرح الوطني الذي انطلق نشاطه الفعلي عام 1984 ثم «مهرجان أيٌام قرطاج المسرحية» الذي أداره حتى حدود عام 1991. وبعد غياب عن الأضواء، عاد السويسي في عام 1995 إلى الكاف مديراً لـ «المركز الوطني للفنون الدرامية والمسرحية». لكنّ عودته الثانية لم تكن بالنجاعة والجدوى نفسيهما، ولم تستمرّ التجربة طويلاً، إذ انسحب السويسي ليؤسس شركة إنتاج خاصة بالتزامن مع مساهمته في تأسيس «الهيئة العربية للمسرح» في إمارة الشارقة.
كان المنصف السويسي مجنوناً بالمسرح، عاشقاً لتونس. ومثلما أثار الجدل في مسرحه وحوله، أثار الجدل بمواقفه السياسية. وهو ما عابه عليه الكثير من أصدقائه ومحبيه الذين ساءهم أن يروا المنصف السويسي أحد رموز المسرح التونسي، يساند حركة «النهضة» وحليفها منصف المرزوقي بعدما كان من رموز الثقافة الرسمية، وحظي بالتكريم من الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وحاز عدداً كبيراً من الجوائز والأوسمة. لكن مواقفه السياسية الغريبة في السنوات الأخيرة، لا تُنقص شيئاً من مساره الإبداعي والتأسيسي الكبير.