نادراً ما كان يعرّف أندريه فايدا (1926 ــ 2016) عن نفسه كمخرج، من دون استحضار هويته البولندية، بما تحمله من مشقّة وتراجيديا تاريخية. المعلّم البولندي رحل أول من أمس، نتيجة فشل رئوي، في وارسو، تاركاً لنا سجلات بصرية عن مناخات أوروبا الشرقية، وتحديداً بولندا بين الاحتلال النازي والحكم السوفييتي وهويات بلاده القاتلة. الأسئلة الأخلاقية التي حامت حول أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، قبل أن ترافق مآزق التاريخ البولندي، تسرّبت مباشرة إلى السيرة الذاتية لفايدا. والده العسكري جايكوب أحد ضحايا مجزرة غابة كاتين التي تبين لاحقاً أن قوات سوفياتية خاصة نفذتها عام 1940، وراح ضحيتها آلاف الضباط البولنديين. طبعاً، سيستعيد فايدا هذه الذكريات في أفلامه التي قاربت الأربعين، آخرها Afterimage هذه السنة.
ثلاثيته الواقعية الأولى وثّقت لمراحل مفصلية من الحرب العالمية الثانية في بلاده

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، لم ينتظر طويلاً حتى باشر بالعمل على وثائقي حول تلك المجزرة بعنوان «غابة كاتين»، ثم استعادها مرة أخرى في شريطه الروائي «كاتين» (2007). يملك فايدا أيضاً ذكريات كثيرة عن مدينته الأولى سوفاوكي التي لم يتوانَ عن ذكر تأثيرها في وعيه الفني في مقابلات صحافية عدّة. لقد كانت مدينة عسكرية بامتياز، هكذا كان يقول دائماً، تسير على وقع أقدام العسكر والمسيرات الصاخبة. من الفنون التشكيلية انتقل فايدا الشاب إلى السينما، وترك إسهامات في المسرح حيث أخرج مسرحيات لشكسبير وللأميركي ويليام غيبسون وغيرهما. منذ ثلاثيته السينمائية الواقعية الأولى («جيل»، و«كاناو»، و«رماد وألماس») نهاية الخمسينيات وثّق مراحل مفصلية من الحرب العالمية الثانية في بولندا، ومن تلك خطت مستقبلها لاحقاً. الخسائر البشرية في الحروب حاضرة في «جيل» (1954) المشبع بتأثيرات الواقعية الإيطالية الجديدة. الفيلم عبارة عن بورتريه جماعي لأرواح البولنديين التائهة والمرعوبة من خلال قصة حب تستوي، على هامش تنظيم الشيوعيين صفوفهم في مقاومة وطنية لمواجهة الاحتلال النازي لبولندا. «كاناو» (1956) محطة مع المراحل الأخيرة لانتفاضة وارسو في 1944، تستعيد بشكل خاص نضالات «جيش الوطن البولندي» ضد الاحتلال الألماني. الشريط الروائي الثاني لفايدا الذي يعد أول الأفلام التي تناولت هذه الانتفاضة، كان بوابته لنيل «جائزة لجنة التحكيم» في «كان» (1957). توج فايدا ثلاثيته بـ «رماد وألماس» (1958) الذي كرسه مخرجاً عالمياً. يوثق الفيلم سقوطَ الألمان في بولندا وتسلم السوفييت الحكم. أتى فايدا من خلفية سياسية بحتة، وهذا ما أفقده الاحتفاء العالمي الذي لحق بمواطنيه رومان بولانسكي وكريستوف كيشلوفسكي. أعمال معدودة استطاعت أن تفلت من الثقل التاريخي، لتصنع لحظات عابرة في مسيرته السينمائية. «مشعوذون أبرياء» (1960) الذي وصفه فايدا بـ «أكثر أفلامه خلواً من التأثيرات السياسية»، هو واحد من هذه اللحظات المجنونة التي سرقته عين المؤرخ السياسي. حمل الفيلم تأثيرات مباشرة بالموجة الفرنسية الجديدة، منصرفاً إلى العلاقات الشخصية وقابضاً على التحولات المعاصرة في مجتمع بداية الستينيات. تحولات شاهدناها في ملامح أبطاله الملتصقين بمقاعد البارات، والمهووسين بالجاز وبالألعاب الإيروتيكية الطائشة. طبعاً، لم يرق الحكومة آنذاك، تصوير «جيل المستقبل» بطريقة «منحلة آخلاقياً» كهذه، ليجد فايدا نفسه في مواجهة رقابة بلاده. سريعاً استعاد فايدا «وجهته» السياسية في «شمشون» (1962)، الذي تطرق إلى الهولوكوست و«لعنة» الهوية اليهودية في وارسو المحاصرة. في بداية الثمانينيات سافر إلى فرنسا بسبب معارضته للرئيس البولندي الشيوعي فويتشخ ياروزلسكي. هناك سيبقى حتى سقوط جدار برلين عام 1989، وينجز «دانتون» (1983) الذي أدى بطولته جيرار دوبارديو في دور أحد أبرز رموز الثورة الفرنسية جورج دانتون، ويقتبس «شياطين» دوستويفسكي في فيلمه «الممسوس» (1988). حتى أحد آخر أفلامه «فاليسا: رجل الأمل» (2013) لم يكن فايدا قد صفّى حساباته مع بلاده نهائياً. يعد هذه الأخير سيرة إنسانية للرئيس البولندي السابق ليخ فاليسا (1990 ــ 1995) الذي ترأس ثورة الحركة العمالية «تضامن» قبل أن يصبح رئيساً لبولندا من سنة 1990 حتى 1995. هكذا أتى «فاليسا: رجل الأمل» النسخة الأخيرة لثلاثية بدأها عام 1976 مع «رجل الرخام» الذي نقل تظاهرات حوض السفن في غدانسك عام 1970، ثم فيلمه «رجل من حديد» الحائز «السعفة الذهبية» في «كان» عام 1981 الذي رافق بداية ثورة «تضامن»، التي أسهمت في إنهاء الحكم الشيوعي في بولندا. عام 2000، استحق فايدا «جائزة أوسكار فخرية» لإسهاماته في السينما العالمية، التي رسخت التاريخ البولندي المضطرب سينمائياً، ووثقت سيرةَ البلاد الإنسانية.