كان | مهما فتّش المرء، لا يمكن أن يجد في أعمال الفرنسي جاك أوديار (1952) على أي سقطة أو عثرة فنية. منذ باكورته «انظر الى الرجال وهم يسقطون» التي هزت الكروازيت، حين عرضت في «أسبوع النقاد» ضمن «مهرجان كان السينمائي» عام ١٩٩٤، لغاية «عن الصدأ والعظام»، الذي خطف أربع جوائز «سيزار» (٢٠١٢)، قدّم وريث «الواقعية الجديدة» الإيطالية سبعة أفلام في المجموع، تعد كلّها محطات بارزة ومؤثرة في السينما الفرنسية والعالمية، خلال السنوات العشرين الأخيرة.
من «بطل انطوائي جداً» (١٩٩٦) الى «نبي» (٢٠٠٩)، مروراً بـ «على شفتيَّ» (2001) و»عن النبض توقف قلبي» (٢٠٠٥)، تكرس اسم أوديار ليس في مصاف كبار أقطاب «سينما المؤلف» عبر العالم فحسب، بل كأحد أكثر السينمائيين قدرةً على تجديد أدواتهم، ومفاجأة جمهورهم بمواضيع وأجواء وعوالم مغايرة. بعد اشكالية الحب والإعاقة الجسدية في «عن الصدأ والعظام»، ها هو يطرق هذه السنة، بفيلمه Dheepa، موضوعاً مغايراً تماماً. اختار إسناد الأدوار الرئيسية فيه الى ممثلين غير محترفين اختارهم من بين اللاجئين التاميل في باريس، مجازفاً بتصوير عمله هذا كاملاً باللغة السريلانكية.
لكن أوديار ــ كعادته ـــ راوغ الذين توقعوا منه أن يقدّم ميلودراما تتماشى مع موجة التعاطف الغربية (الكاذبة) مع مآسي المئات من اللاجئين والمهاجرين السريين الذي يقضون في حوادث قوارب الموت في عرض المتوسط. منذ البداية، يكشف الفيلم ـــ من دون مواربة ـــ أنّ بطله «ديبان» يسطو على أوراق الهوية الخاصة بعائلة من المرشحين للهجرة، ماتوا في حادث قبل ستة أشهر. ثم يفتش بين جموع المرشحين للهجرة عن امرأة وفتاة في الثامنة يصطحبهما معه على المركب الذي يسافر على متنه الى فرنسا، لتسهيل حصول الثلاثة على اللجوء السياسي، بحجة أنّهم زوجة وزوج وابنتهما هاربون من مجازر الاقتتال العرقي في بلادهم.
بذلك، أراد المخرج كسر الصورة المثالية للتعاطف الميلودرامي المبالغ فيه مع اللاجئين، بوصفهم ضحايا أبرياء في المطلق، ليبرهن بأنهم ليسوا ملائكة، بل بشر من لحم ودم، يناضلون لإيجاد مكان تحت الشمس، حتى لو تطلّب ذلك منهم التزوير والكذب والاحتيال. واذا بذلك كلّه لا ينتقص من تعاطف المشاهد معهم، حيال المعاناة الانسانية الناجمة عن هربهم من أتون الحروب الأهلية. وما زاد من هذا التعاطف أنّ أفراد هذه «العائلة المزيفة» من اللاجئين التاميل تزداد معاناتهم حين يحطّون رحالهم في أحد أحياء الضواحي الباريسية. تعثر لهم جمعيات العناية باللاجئين على وظيفة كحراس في إحدى العمارات. فإذا بهم يجدون أنفسهم تحت سطوة عصابات المخدرات المهيمنة على الحي، التي تحوّل حياتهم الى جحيم يجعلهم يحنون الى حياتهم السابقة في سريلانكا!
النظرة القاتمة التي سلطها أوديار على واقع أحياء الضواحي، أثار امتعاض كثيرين من النقاد والصحافيين الفرنسيين الحاضرين في «مهرجان كان»، ممن أزعجتهم رؤية وجه فرنسا القبيح في مرآة هذا الفيلم، بخاصة أنّ «العائلة التاميلية» تجد في النهاية ملاذاً آمناً لها في الجارة اللدود بريطانيا. لكن كل هذه الانتقادات لم تستطع الانتقاص من قيمة الفيلم الفنية والفكرية.
وكما هي الحال مع كل عمل جديد لأوديار، من نافل القول الإشارة إلى أنه تقدم بأشواط على كل من دخلوا حتى الآن، حلبة السباق نحو «السعفة الذهبية»