ليلاس حتاحت


ماذا لو نشَأت في منزل أول رئيس للجمهورية؟ وشهدت تاريخاً حوّله من قصر إلى مدرسة... ومن ثم مكان تشغله اليوم ورش الأحذية؟
ماذا لو حفظت معالم مكان بدأ يتلاشى، تنسحب منه الأضواء لينزوي وحيداً في ركن ما من شارع دمشقي؟ سيعتريك الغضب، وتخنقك الغصّة، وتجيب بحزن عن كل الأسئلة كما يفعل عزت يازجي، وهو من مالكي «قصر العابد» في دمشق.
يسرد يازجي قصة منزل عاش وربّى أولاده فيه، ويتغنى بما كان عليه قصر العابد الذي احتضن محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية أيام الانتداب الفرنسي.
في سوق ساروجة، أحد أقدم الأحياء الدمشقية وأكثرها قيمة معمارية وأثرية، يقبع القصر وتختلف الروايات بشأن «ولادته»، قد يكون من المباني التي شُيّدت قبل 300 عام أو أن بناءه يعود إلى القون الثامن عشر أو التاسع عشر. وهو من ثلاث كتل: الحرملك، والسلملك، والخدملك، وله ثلاث فسحات سماوية، كما يطل على حارتي «قولي»، و«المفتي»، وتتوزّع غرفه الـ 65 على طبقات، أسقفها من القرميد وجدرانها الداخلية مكسوّة بالخشب المحفور... كانت الغرف بهية، أنيقة مرت السنون وتركت فيها حفراً، رمّم يازجي أربع غرف فقط ليقيم فيها مع عائلته، وبقي يراقب بعجز اهتراء الخشب والقرميد والمشربيات الخشبية المقطّعة.
موقع المنزل ومساحته الكبيرة جذبا أنظار أبناء الجالية الأميركية في دمشق عام 1942، استأجروه من ورثة العابد وحوّلوه إلى «المدرسة الأميركية»، ويوم رغبوا في إغلاقها استأجر سليم يازجي القصر وجعله «الثانوية الأهلية» التي استقبلت الطلاب (من بنين وبنات) من سن الحضانة حتى الثانوي، وخُصص قسم منها كمدرسة داخلية. وليحافظ على كيانها ويؤمّن الدعم لها، جعل السيدة أسما زوجة فارس الخوري رئيسة فخرية للمدرسة، إضافة إلى الحفل السنوي الذي ترعاه شخصيات مهمة مثل أديب الشيشكلي... ومع الوقت أصبحت من أفضل المدارس في سوريا، حيث تخرّج منها عدد من رجالات الدولة والمجتمع. ويضيف عزت يازجي عن أهمية أجواء المدرسة «كانت الخمسينات فترة غليان سياسي وتعددية حزبية، والطلاب آنذاك أكثر وعياً ولهم انتماءاتهم المختلفة، مما جعل المدرسة مكاناً لتبادل النقاشات التي كانت تصل حد الشجار أحياناً».
يذكر عزت أن والده سليم يازجي اشترى المنزل على عدة مراحل من الورثة، وجعل الطابق العلوي سكناً له ولعائلته، ويلفت إلى أنه في أواخر الستينيات صدر مرسوم يقضي بإشراف الدولة على المدارس الخاصة، والاستيلاء عليها إن عارضت وجود مدير مشرف من جانب وزارة التربية، إلى أن تسلّم الوزارة سليمان الخش الذي طلب من يازجي إغلاق المدرسة أو رفع مرسوم باستملاك العقار لمصلحة وزارة التربية فاختار أن يغلق المدرسة عام 1970. حكاية القصر، كحكايا المقهورين الذين يترصّدهم سوء الحظ، ففي أواخر الستينيات اضطر سليم آسفاً إلى تأجير قسم «السلملك» إلى ورش الأحذية!!! وله جملة شهيرة ربما تلخّص الوضع برمته، حين جاءه بعض الزوار واستغربوا وجود ورش الأحذية، يومها قال «كنا نخرّج عقولاً، الآن نخرج نعولاً»...
وقد اختارت وزارة التربية قسم «الحرملك» لتجعله مدرسة «نجم الدين عزت»، ويوماً بعد يوم تحول المكان إلى خرابة وبدأ بالتآكل، ولم يعد صالحاً كمدرسة في أواخر السبعينيات، رغم ذلك بقيت الوزارة تضع يدها على المكان، إلى أن رفع يازجي دعوى قضائية ضد الوزارة التي أخذت المدرسة دون وجه حق، ومن دون أن تملك عقداً ملزماً!!
واكتملت دائرة المأساة مع صدور تنظيم ساروجة عام 1978، حيث وضعت كل الأحياء الواقعة خارج سور دمشق (بالتالي الخارجة عن نطاق تصنيف اليونسكو كتراث عالمي) كمرشحة للهدم لإنشاء أبنية جديدة مكانها. وابتدأ الصراع مع المحافظة من أجل الإبقاء على الحي الأثري.. وبفضل جهود جمعية أصدقاء دمشق أوقف قرار التنظيم عام 1989 ولم يلغَ، لإعادة الدراسة المعمارية الجديدة لساروجة بما يتناسب مع النسيج العمراني للمنطقة.
يسترسل عزت يازجي في سرد تاريخ المكان، وترتسم ملامح الحزن على وجهه حين يتذكر الحريق الذي طال القصر، كان ذلك«ليلة رأس السنة عام 1993، شعرت كأن طفولتي، منزلي، مدرستي، وذكرياتي مع أصدقائي... جميعها تحترق، يومها غضبت وقلت للمحافظ حين جاء لمعاينة الوضع: احرقوا وأنا سأبني، لن أخرج من المنزل إلا جثة هامدة». وبالفعل رمّم جزءاً بسيطاً منه وعاد للسكن فيه مع عائلته.
في عام 1995 استطاع يازجي أن يحصل على حكم بإخلاء الحرملك لمصلحته. وتحوّل المنزل إلى مزار للباحثين المعماريين والمستشرقين الأجانب والمحبّين لدمشق وحضارتها.. لدراسة شكله المعماري والرسوم والنقوش الأثرية.. والمضحك أن بعضهم يسأل إن كان هناك «طميرة» أي كنز مدفون وهل هو مرصود؟؟
أخيراً عام 2003 صدر كتاب عن رئاسة مجلس الوزراء بالإبقاء على ساروجة واعتباره شريحة أثرية، لكن لم يغيّر ذلك من واقع الحال. فالبيوت تداعت بسبب إهمال الصيانة ووضع الحي غير مستقر، والأهم من ذلك أنه حتى اليوم لم تُعَد سندات الملكية إلى أصحابها، والمضحك أن المالكين يدفعون الأجرة للمحافظة، أُوقف قرار التنظيم والجباية مستمرة!!
ينهي يازجي حديثه قائلاً «سأبقى في المنزل ما حييت، وما أرغبه هو ترميم المكان واستغلاله في مشروع تجاري ما، دون المساس بقيمته أو هدمه.. بل الإبقاء عليه كمعلَم أثري، فالعائلات تذهب ويبقى المكان ليدلّ على حضارة دمشق وعراقتها».