كان ــ عثمان تزغارت درجت العادة أن يغلب «الغلامور» والطابع الاستعراضي ـــــ النجومي على الأيام الأولى من «مهرجان كان السينمائي الدولي»... قبل أن تعود الأفلام تدريجاً إلى الصدارة من خلال الجدل النقدي والسياسي الذي يجعل المهرجان بمثابة «بارومتر» لجسّ نبض العالم وقراءة الراهن السياسي والاجتماعي كما ينعكس على شاشات الأفلام التي اختيرت لتُعرض هنا في «قلعة السينما». لكنّ الدورة الـ63 التي افتُتحت أول من أمس الأربعاء، شذّت عن القاعدة. منذ سهرة الافتتاح، استطاع المهرجان أن يزاوج بين «الغلامور» والسياسة. سلالم المهرجان المكسوة بالبساط الأحمر عجّت بآلاف المتتبّعين من إعلاميين ونقاد وجماهير غفيرة اصطفّت على امتداد الكروازيت، لمتابعة وصول نجوم السهرة، وفي مقدّمهم راسل كرو وكايت بلانشيت، بطلا فيلم الافتتاح «روبن هود» لريدلي سكوت. لكنّ السياسة سجّلت أيضاً حضوراً قوياً منذ أولى لحظات الافتتاح. فما إن وصل رئيس لجنة التحكيم، السينمائي الأميركي المشاكس تيم بورتون، إلى أعلى البساط الأحمر، حتى أطلق صرخة سياسية غير معهودة. هكذا، تحدّث صاحب «أليس في بلاد العجائب» لتلفزيون المهرجان، مخاطباً الجمهور الحاضر، بقوله: «إن روعة الطقس هذا العام، وتألّق النجوم، والأجواء الساحرة التي تحظى بها الكروازيت دائماً، لا يجب أن تنسينا أنّ واحداً من أعضاء لجنة التحكيم التي أرأسها لن يكون بيننا، لأنّه مسجون في إيران». وقصد بذلك طبعاً السينمائي جعفر بناهي الذي كان يُفترض أن يشارك في المهرجان بوصفه عضو لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، إلا أنّ السلطات الإيرانية احتجزته على خلفية مواقفه المعارضة للنظام.
ولسبب غامض لم يعثر أحد على تفسير مقنع له، امتنع تيم بورتون عن إلقاء الكلمة التقليدية لرئيس لجنة التحكيم في حفلة الافتتاح. إلا أنّه أصرّ على تخصيص كرسي شاغر في منصة لجنة التحكيم، وُضعت عليه لافتة كُتب عليها اسم «جعفر بناهي».
لم يكن هذا الاهتمام بالأزمة الإيرانية مفاجأة بالنسبة إلى أحد، إذ إنّ الجميع كان يترقّب أن يحظى جعفر بناهي بتضامن كبير هنا في «كان». من هذا المنبر انطلق هذا السينمائي إلى العالمية، في عام 1995، حين حاز جائزة «الكاميرا الذهبية» عن باكورته «البالون الأبيض». لكنّ التوقعات كانت ترجِّح أن تُثار قضية سجن بناهي لدى عرض فيلم مواطنه عباس كياروستامي «نسخة طبق الأصل» يوم الثلاثاء 18 أيار (مايو) المقبل، على اعتبار أن جعفر بناهي تتلمذ على يد كياروستامي، وبدأ مساعد مخرج تحت إدارته في رائعته «عبر أشجار الزيتون» (1994). لكنّ تيم بورتون فاجأ الجميع بإثارته هذه القضية السياسية الشائكة في سهرة الافتتاح، التي عادة ما يُتفادى الجدل والقضايا السجالية خلالها، لتغليب الجانب الاستعراضي الذي يستقطب الجمهور الواسع.
على صعيد الأفلام، لم تخيّب هذه الدورة آمال غالبية النقاد الذين يرتقبون أن تكون واحدة من أخصب دورات المهرجان. فقد أحدث الفرنسي ماتيو أمالريك المفاجأة بفيلم «الجولة الفنية» الذي كان أول عمل دخل السباق الرسمي على جائزة «السعفة الذهبية» أمس الخميس. وقد أجمع النقاد على أنّ أمالريك، الذي اشتهر عالمياً كممثل منذ أدائه المميّز في رائعة جوليان شنابل «الفراشة وبذلة الغطس» (2006)، أنجز هنا أول عمل إخراجي له وخرج بتحفة سينمائية تنبئ بميلاد مخرج واعد.
يروي الفيلم قصة حميمة، ذات منحى نفسي عن «أزمة الأربعينيات»، تتعلق بمنتج تلفزيوني فرنسي يتخلى فجأة عن عمله وعائلته وأولاده، ويسافر إلى الولايات المتحدة بهدف تحقيق حلم حياته في تأسيس فرقة للرقص العاري تقتصر على الراقصات البدينات. وقد أطلق عليها اسم News Burlesque. وإذا بالفرقة تحقق نجاحاً عالمياً، من خلال جولة فنية طويلة كان يُفترض أن تكون محطتها الأخيرة والأهم هي باريس. لكنّ الحلم يتبخّر، لأنّ رواسب حياة المنتج التلفزيوني السابق سرعان ما تعود إلى الواجهة لتعكّر عليه سعادته في حياته الجديدة برفقة راقصاته البدينات.