أثارت مؤلفات الفيلسوف التنويري يوسف الصديق (1943) سجالاً واسعاً في العالم العربي. هو يُعد من أبرز المشتغلين على تحرير القرآن من سلطة الفقهاء، مطالباً بقراءة النص القرآني قراءة عقلانية.صدر كتابه ذائع الصيت Nous n›avons jamais lu le Coran باللغة الفرنسية عام 2004. وفي عام 2013، انتقل إلى المكتبة العربية تحت عنوان «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوبٍ أقفالها» (2013) حيث تساءل المفكر التونسي: «ما الذي جعل القرآن غير قابل للقراءة المأذونة إلاّ بوساطة رجال الدين؟ ومن الذي بَوَّأَ رجل الدين سلطة التعهّد بقراءة ما، ثم الأمر بترديد ما وقف عليه؟ وما بال هذا النص البديع يأتي إلى مسامعنا في تلاوة رتيبة، فنستبدل طاقته في بث بعده الكوني بسبات شتوي في فضاءات أرشيفنا العربي الإسلامي المنخورة؟».

في كتابه «الآخر والآخرون في القرآن» (دار التنوير ــ الطبعة الأولى ــ 2015)، يخرج الباحث المختص في أنثروبولوجيا الأديان بخلاصات مغايرة لمفهوم الغيرية التقليدية. لا ترتكز أفكاره إلى موقع الآخر الديني في القرآن فحسب؛ بل إنه يتحرى عن «الآخر الميتافيزيقي» و»الآخر الثقافي» و»الآخر والموروث». لعل أبرز خلاصة يمكن للقارئ أن يصل إليها من ثنايا الكتاب دعوته إلى عدم التكبّل بما قدمه «الآخر القديم»، قاصداً بذلك سلطة الفقيه. اعتبر أن المفسرين مثل الطبري أو الرازي وغيرهما «يعيشون فقراً كبيراً في المعرفة بحثاً وتمحيصاً ونقداً، وما يقدمونه من روايات وأخبار يدل على سقوط في الإسرائيليات، وفي الوهم».
يهتم المؤلف بـ «الآخر العقلاني» في التاريخ العربي الإسلامي. ذلك الآخر الذي عمل على دراسة النص القرآني دراسة عقلية مثل الزمخشري المعتزلي مفسر القرآن في مدونته «الكشّاف»، والفيلسوف أبي الوليد بن رشد مؤلف كتاب «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال» الذي أقرّ بأن القراءة غير العقلية هي القراءة الدينية. وإذ يتبنى الصديق مقولة المعتزلة حول قضية خلق القرآن، يرى «أنّ النص القرآني تاريخ ينطبق عليه التطور، ويمكن أن ينطبق عليه ما ينطبق على أي كتاب آخر يحمل من القيم الكونية ما يؤهله إلى أن يكون إنسانياً».
يحيلنا الصديق على مقاربة جديدة لمسألة الوحي ناظراً إليها من رؤية «التدخل الإلهي في الكون، ومنه التدخل في القول الذي ينزل على أناس معينين ولا نعرفهم وقد أخبرنا عنهم القرآن (...) وللوحي علاقة بالنبوة، في تواصلها واستمرارها أو في انقطاعها وختمها». كان المفكر المغربي سعيد ناشيد قد خلص في كتابه «الحداثة والقرآن» (دار التنوير، 2015) إلى أن «القرآن الكريم خطاب لغوي وبشري للوحي الرباني. خطاب أنجزه الرسول، عبر قوته التخييلية، وانطلاقاً من ثقافته وبيئته ولغته وشخصيته».
شغل الوحي العديد من المفكرين العرب والأوروبيين. ويُعد الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632ــــ1677) من أبرز فلاسفة اللاهوت الذي خاضوا في هذا الموضوع. جاء في كتابه «رسالة في اللاهوت والسياسة»: «اختلفت الآيات باختلاف الأنبياء، وكذلك اختلف الوحي عند كل نبي طبقاً لمزاجه على النحو التالي: إذا كان النبي ذا مزاج مرح، توحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام. وبالفعل نجد أن من لهم هذا المزاج قد اعتادوا أن يتخيلوا أموراً كهذه. وعلى العكس من ذلك، إذا كان النبي ذا مزاج حزين، توحى إليه الشرور كالحرب والعذاب، وإذا كان النبي رحيماً ألوفاً غضوباً قاسياً... كان قادراً على تلقي هذا الوحي أو ذاك».
يدرس الصديق «الآخر في التاريخ الديني» متحرياً صورة موسى وإبراهيم وعيسى في النص القرآني انطلاقاً مما يسميه «مسار تاريخ المجاز». يبحث في مفردة «كفر» محلّلاً سياقاتها في القرآن. يرى أنها تحمل دلالات عدة، وهي في الغالب تتناقض مع الفهم الفقهي التقليدي. اللفظة الآرامية «كفر» ذات صلة دلالية بالمسألة الزراعية كما ورد في سور الفتح الآية 29 أو كما عبرت عنها الآية 20 من سورة الحديد، فالمقصود بكلمة «الكفار» هم «المزارعون لمّا يفرحون بمنتوج الأرض وخصوصاً بثقل السنابل». وتعني كلمة «كفر» في دلالة أخرى جحود الشيء مهما كان وإخفاءه.
انشغل يوسف الصديق بأبعاد سياقية أخرى للغيرية. نجده يتحدث عن «الآخر المحض»: الله ونقيضه الصرف (إبليس الشيطان). «إن نقطة الانطلاق للغيرية هي إخراج نقيض الإله من الإله قبل أن يخلق العالم». وبناءً على تفسيره للآية 12 من سورة الأعراف والآية 75 من سورة «ص» والآية 82 من سورة «يس»، يخرج بالتفسير التالي: «هذا جعلني أصل إلى تدخل الإله في أن يُخرج من ذاته نقيضه. أخرج من ذاته نقيضه وخلق العالم، يعني أن العالم انبنى على الغيرية. ومن هو غير الإله؟ هو إبليس».

الكلمات القرآنية مثل «زخرف» و«سجيل» و«كوثر» هي ذات أصل يوناني

يحلِّل المؤلف مفهوم الآخر في المجال أو الفضاء. يقسم القرآن الآخر ضمن فضاءين: فضاء البدو والأعراب، وفضاء المدينة. وفي إطار الغيرية من منظورها المعرفي، يشير الصديق إلى الفيلسوف بوصفه «آخراً» تتم محاربته من قبل الفقهاء على قاعدة أن «الفلسفة شك والفقه يقين». «ولما كانت الفلسفة سؤالاً وبحثاً وتنقيباً ورفضاً للجامد من القوالب، أُبعدت وحُيَّدت حتى أصبحت في تاريخ العرب المعرفي عدوة، فهُمش الفيلسوف وأُقصي كل مفكر حر لأنهما يفسدان عمل الفقهاء والمفسرين».
ينتقد الصديق الفهم الفقهي التقليدي لـ «الآخر الديني» (أهل الكتاب)، ويلاحظ أنّ الأصوليين وخصوصاً السلفيين يعيشون دائماً في القرن الأول من الهجرة، فيذكرون حياة الرسول وعلاقته باليهود والنصارى وما إلى ذلك، كأن التاريخ توقف في المرحلة الأولى من الإسلام.
يتمثل «الآخر الثقافي» في القرآن في الحضارة اليونانية والفرعونية. قبل ظهور الإسلام، كانت الجزيرة العربية «منفتحة ثقافياً على الآخر تأثيراً وتأثراً» وتركت تأثيرها في المعجم القرآني لا سيما الآخر اليوناني. الكلمات القرآنية مثل «زخرف» و»سجيل» و»كوثر» و»مسوّمة» هي كلمات من أصل يوناني دخلت الفضاء العربي بفعل هذا التفاعل المثمر الذي كان قبل الإسلام تجارة ومصاهرة وسلماً حيناً وحرباً حيناً آخر كما يذهب المؤلف.
يضعنا «الآخر والآخرون في القرآن» أمام إشكاليات بارزة لـ «الغيرية» في النص القرآني في أبعادها الثقافية والدينية والحضارية. تتطلب القراءة الجديدة لـ «الآخر» في القرآن أدوات تأويلية تأخذ من العلوم الإنسانية ومناهجها الحديثة بما يساعد في الانفكاك من الفقه التقليدي وتجاوزه «فالعلم سيرورة وتراكم».