حسن م. يوسف: العريف غضبان

  • 0
  • ض
  • ض

في ليالي الشتاء كنت أدعو ربي أن يأتي الحذَّاء سليمان شرَّابي للسهر عندنا، خاصة في الليالي المطيرة الحالكة، التي يعلو عصف رياحها ليصلنا ممزوجاً بوأوأة بنات آوى المحمولة على الريح من الغابة القريبة، لتصل مسامعنا بوضوح كما لو أنها توأوئ خلف باب بيتنا الترابي الذي كان يترك مفتوحاً طوال النهار وجانباً من الليل إلى أن يوصده أبي قبل أن يطفئ «البصبوص» (جهاز إنارة بدائي يعمل بالكيروسين) ويأوي إلى الفراش. ها أنذا أراه يجلس مقابلنا على كرسي مصنوع يدوياً من أخشاب التوت، ونحن دونه نجلس على الأرض الباردة وليس بين أقفيتنا والتراب سوى بساط من القش فوقه لبَّاد مَكْحُوت من الصوف. ها نحن نتحلَّق حول الجورة الدائرية التي تشتعل فيها النار وتنتصب فوقها «أثفية» معدنية ثلاثية القوائم، غالباً ما تعتليها طنجرة يغطيها السخام، وفي الأمسيات الباردة ترانا منحنين نحو اللهب، مادين نحوه أقدامنا وأيدينا كما لو أننا نقوم بطقس بدائي غريب. وها هي دموعنا تنحدر على خدودنا بسبب الدخان الناجم عن الاشتعال غير الكامل لحطب السنديان الذي يولِّد غيوماً حراقة في العيون. برأس يحتله خوف مزمن من الغيلان والجن والضباع والأشباح، كنت أصغي لسليمان شرابي وهو يروي لنا حكاياته بطريقة ساحرة تنسينا خوفنا وبردنا وجوعنا في أحيان كثيرة. كان الرجل يلف أرواحنا برشاقة وإحكام حول كلماته كما يلف تلك السلسلة الطويلة حول سبابته، وكنت معجباً بسلطة كلماته علينا بحيث بات حلمي أن أكون حكواتياً مثله. يحتل «الكتاب» - أي القرآن - مكانة مميزة في بيوت الفقراء، لكن الكتب غالباً ما تكون نادرة، وإن عُثِر على كتاب بالصدفة فلا بد أن يكون فاقداً للصفحات العشر أو العشرين الأولى منه وللصفحات العشر أو العشرين الأخيرة منه أيضاً. ولهذا كانت قراءاتي الأولى فقيرة ومقتصرة على الأدب الشعبي، وعندما انتقلت إلى مدينة جبلة لمتابعة دراستي الإعدادية، لم تكن أوضاعي تسمح لي باقتناء الكتب، ولهذا ظلت قراءاتي هزيلة إلى أن أكتشف عالم «الاستعارة» المدهش. عندما نجحت في البكالوريا أعطاني أبي ما معه وقدره مئة واثنتان وثمانون ليرة ونصف وأرسلني إلى دمشق كي أسجل في كلية الحقوق وأعود للقرية لأعمل كمعلم وكيل، لكنني سجلت في قسم الأدب الإنكليزي وسكنت مع ابن قريتي عبد الحميد هلال، الذي أصبح تالياً صديقاً ومربياً ومصوراً ضوئياً متمكناً. بعد انتهاء ما لدي من نقود قمت بعدد من الأعمال البائسة، ثم أسعفني الحظ بالعمل كبائع قسائم في مقاصف الجامعة التي كان يستثمرها اتحاد الطلبة. ذات يوم رويت لزميلتي في قسم اللغة الإنكليزية (ش) قصة حزينة عن شاب يحب فتاة من غير طائفته، ولفرط تأثرها بالقصة طلبت مني أن أكتبها، على أن تقوم هي بكتابتها أيضاً، لنرى من سيكتبها أجمل. كتبت القصة بجلسة واحدة، وبدلاً من أن تكتبها زميلتي، أخذت ما كتبتُ وأعطته لبندر عبد الحميد سكرتير تحرير مجلة «جيل الثورة» الذي أصبح تالياً شاعراً هاماً وصديقاً وناقداً سينمائياً. كانت المفاجأة الكبرى عندما نشر بندر نصي في ركن «قصة العدد»، الذي كان يقتصر النشر فيه عادة على الكتاب البارزين! فحصلت على مكافأة مادية! كما حصلت على مكافأة أهم هي الاعتراف بوجودي كإنسان. ومع تحسن لغتي الإنكليزية انتقلت للعمل كمترجم في المجلة التي نشرت قصتي.

رسم الفنان عمر حمدي غلاف مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت عن «وزارة الثقافة بدمشق» عام 1978
أثناء ترددي على «مكتبة صائغ» المتخصصة في الكتب الأجنبية اكتشفت أن دارPenguin تصدر سلسة كتب بعنوان Modern Short Stories، وقد تمكنت من خلال اقتناء تلك السلسلة أن أطلع على أحدث تقنيات الكتابة القصصية في العالم، وقد ساعدني هذا على الارتقاء بنصوصي التي بدأت تجمع بين الثقافة الشعبية المحلية وأحدث تقنيات القص الحديث. شجعني الاعتراف بي على الاشتراك في المسابقة السنوية للجامعة، بقصة «هم يبتسمون أيضاً» وكان رئيس لجنة التحكيم زكريا تامر، ففزت بالجائزة الأولى. وفي السنة التالية شاركت بقصة «العريف غضبان» في مسابقة جريدة «الثورة» للقصة القصيرة فمنحتني اللجنة الجائزة الأولى: وقد كتب رئيس اللجنة الأستاذ فائق المحمد في نفس الجريدة، عن القصص الفائزة، وخص قصتي بالكلمات التالية: «تملك قصة «العريف غضبان» منهجاً قصصياً متميزاً. التقنية والمضمون فيها يسيران بخطين متوازيين لأن كلاً منهما يشكل ركناً من أركان بناء القصة. المعالجة في «العريف غضبان» عفوية ومتدفقة بالأبعاد الإنسانية». وهي «تجربة مُعَاشة وأكثر التصاقاً بحياتنا اليومية، وبالتالي فإن كاتبها يملك خلفية اجتماعية واضحة». توالت الكتابات النقدية عن «العريف غضبان» فوصفها أحمد سويدان بأنها: «تعبر عن الانهزام الداخلي... والتآكل الإنساني وهو واقع نعيشه جميعاً بحالات متفاوتة، وبمستويات مختلفة». وتوقف شوقي بغدادي عند مقولة القصة إذ وجد فيها: «إدانة إنسانية ولغة ذكية مؤثرة تنبش الأعماق الطيبة لإنسان أفسده النظام». أما الشاعر رياض الصالح الحسين، الذي أصبح تالياً صديقاً عزيزاً وشاعراً كبيراً، فرأى أن: «العريف غضبان هو رمز السلطة التي تعذب الشعب عندما تنعدم لديها القدرة على التمييز بين الذي عليها والذي معها». كان المشهد النقدي بالغ النشاط في ذلك الوقت لدرجة أن المقالات النقدية تحولت إلى مادة للتجاذب بين النقاد شارك فيها نقاد آخرون. بعد بضعة أشهر غارت «جريدة البعث» من زميلتها فأعلنت عن مسابقة للقصة القصيرة وقد شاركت فيها بقصة «سالاثيميا عظمى». كانت شروط المسابقة أن يوضع النص في مغلف وعنوان النص واسم الكاتب في مغلف آخر مغلق. لهذا صدمت عندما التقيت صدفة برئيس لجنة التحكيم الأستاذ سعيد حورانية، فقال لي بلهجته الجادة المقتضبة: «قصتك ممتازة»! قلت له باستغراب: «زعموا أن مغلفات الأسماء لن تفتح إلا يوم إعلان الجائزة، فكيف عرفت قصتي!». عندها وضع يده على كتفي وابتسم لي قائلاً: «لم نفتح المغلفات، لكنني عرفت قصتك بمجرد أن قرأت سطرين منها»، وقد كنت ولا أزال أعتبر هذه الكلمات أهم مديح تلقيته في حياتي. عندما أعلنت الجوائز كانت قصتي هي الأولى، يومها قام محمود عبد الواحد، الذي أصبح تالياً صديق العمر وكاتب قصة وسيناريو لا يُجارى، بإجراء حوار معنا وفي الختام سأل كل منا عما يريد أن يكون في المستقبل. يومها أجبت: أريد أن أكون مواطناً. أثناء اختيار مجموعتي الأولى استبعدت العديد من النصوص، وطلبت من صديقي محمود عبد الواحد أن يراجعها، وعندما انتهى من ذلك اقترح عليّ أن أحذف كل الإشارات لفوز قصصي بالجوائز، لأن هذه الإشارات ترهب القارئ كما لو أنها تأمره بأن يعجب بالقصة سلفاً! وأنا أشكره على هذه الفكرة الحصيفة. أثناء خدمتي الإلزامية أكرمتني الحياة بأن جعلتني رفيق سلاح للفنان عمر حمدي، الذي هاجر تالياً إلى النمسا واشتهر عالمياً باسم مالفا، وقد رسم لي غلاف مجموعتي الأولى التي حملت اسم «العريف غضبان» (وزارة الثقافة بدمشق) عام 1978. قبل سنوات أجرى الصديق والأديب الراحل عادل حديدي حواراً معي قلت فيه: «عندما بدأت الكتابة... كنت حاداً كالشفرة، مندفعاً كجدول جبلي يريد أن يقفز مباشرة إلى قاع البحر كي يحلَّي مياهه ويستعيد لها براءة الينبوع الأولى! كانت أحلامي أكبر من رأسي، وكان حبي أكبر من قلبي، وكان إيماني بالناس أكبر منهم»! والآن بعد أن اختلطت مياهي بغيرها، فهمت ماذا كان يقصد ألبير كامو عندما قال: «من يريد أن يغير الواقع لا بد له أن يلوث يديه». وفي لحظة الحقيقة هذه أعترف أن ينبوعي قد جاور المجارير، وأن مياهه قد تلوثت، في رحلتها من أعالي الجبال إلى بالوعات المدينة. لكن نبعي الأول ما يزال مختبئاً في محارة قلبي! وعندما أكتب تنفتح المحارة، ويتدفق في داخلي ذلك النبع الصغير الأحمق الذي يريد أن يقفز مباشرة إلى قاع البحر كي يحلِّي مياهه، فتعود الأحلام أكبر من الرأس، ويعود الحب أكبر من القلب، ويعود الناس أكبر من إيماني بهم!

0 تعليق

التعليقات