فاطمة قنديل



في الشرفة الضيقة، كأنها صممت خصيصاً كي لا تمدد ساقيك فيها، لم يكن أمامنا، أنا وهي، إلا أن نجلس متقابلتين، كي يرى كل منا وجه الأخرى. لم تكن هناك ضرورة لذلك، فعادة ما كانت تصغي وكنت أتحدث، خاصة في تلك الليلة التي تسلّمت فيها ورقة طلاقي، ونفقة خمسمائة جنيه، بعد حب دام سنوات، وزيجة قصيرة متعثرة. كنت في الرابعة والعشرين، وكان المساء ثقيلاً، ووجهها مظلماً لأنها اختارت أن تعطي ظهرها لعمود الإنارة في الشارع. قررت أن أُصلحَ ما أفسدتُه في حياتها، ولو لمرة، فاقترحت عليها جدولة ديونها، ووضع أولوياتها كي تكفيها الخمسمائة جنيه، لكنها أشاحت بوجهها باستهانة، وقالت بحسم: «لا، سنطبع الديوان، هو الوحيد الذي سينقذنا معاً». ذهبت إلى "خطاط" وكنت أتأمله وهو يكتب، ثم إلى مطبعة، توسّط لي عندها صديق لتخفيض النفقات. رسمت لي إحدى صديقاتي الغلاف الذي لم أعد أتذكر منه، أو من الديوان، سوى رسم بدائي لشمس برتقالية على غلاف أزرق. حملت النسخ الألف إلى البيت، فاستقبلتني بسعادة منقوصة، لأنها عرفت أننا نسينا أن نطبع رقم الإيداع على الصفحة الأخيرة. ماتت الفرحة كأفراح تشبهها، وعدنا نجلس متقابلتين في الشرفة، لكنها انتفضت فجأة حين اكتشفت حلاً عبقرياً؛ أحضرنا «ختّامة» و«ختمين» وأمضينا الليلة حتى الصباح ونحن نختم رقم الإيداع، صفحة بصفحة. هل كانت هذه هي الفرحة المرتقبة؟ غالباً، لكنني لا أتذكر من تلك الليلة سوى الضحكات، وأنا أختم على ذراعيها ووجهها رقم الإيداع، وتبادلني اللعبة، ونجري كلٌّ وراء الأخرى في المنزل. «عشان نقدر نعيش» كان كتابي الأول، بالعامية المصرية، هل كان كذلك بالفعل؟ لا أعرف الآن فبعد مرور العمر تتجاور الذكريات في مكامنها، بعد مرور العمر لا تعرف بدقة، هل هذا ماعشته بالفعل، أم أنك تصنع الذكريات، أو تكتبها، كما أفعل الآن؟! لم أزل أحتفظ بنسخة واحدة من الكتاب، هي تكفيني على أي حال، كأنابيب أوكسجين صدأت، كإشارات، تدل بذاتها، على أنك قد سرت في هذا الطريق ذات يوم، وأن بإمكانك أن تستنشق بعض الهواء- حتى لو كان معبأً- إذا ما أغرقتْك الكتابة.
«آه يا فاطمة»، كان عنوان المقال الذي كتبه الشاعر الكبير فؤاد قاعود عن ديواني الأول باللغة العامية

لمن أتحدث الآن بضمير المخاطب؟! لاأعرف! لكنني، حتماً، سأعرف ذات يوم. «صباح الخير» المجلة بباب لويس جريس المفتوح كقلب للناس، يكسر فكرتي التقليدية عن «رئيس التحرير»، أضع الكتاب أمامه، فيعدني بأنه سيقرأه. تمر الأيام، نجلس متقابلتين في الشرفة أعاتبها، لأنها ضحّت بالخمسمائة جنيه، النادرة، بلا جدوى، فتعطي ظهرها للضوء، وتمدد ساقيها على الحائط، وتتمتم بأبيات لصلاح عبد الصبور، الذي كانت تعشقه، فأشيح بوجهي، باستهانة: كلام فارغ! «آه يا فاطمة»، قفزتُ في الهواء، راقصتها، رفعنا الكتاب عالياً كرمح، ودُرنا به في البيت. أنا أضحك الآن، من قلبي، وأنا أكتب، ولا بد أن الأمر كان كذلك، لا بد أن الضحكات لم تزل كامنة هناك، وأن ثمة بئراً للفرحة في مكان ما في الروح، لا تبحث عنه فلن تجده، لأنه مسحور، كما في الحكايات القديمة تماماً. «آه يا فاطمة»، كان عنوان المقال الذي كتبه الشاعر الكبير فؤاد قاعود في مجلة «صباح الخير»، عن الديوان، لم أزل أحتفظ به في ملف خاص، وأزيح عنه الغبار بين وقت وآخر، وأقول لنفسي بحنان، وأنا أربت عليه: «آه يا فاطمة» لم يزل هناك ما هو جدير بالتذكر! قبل أن يصبح كتاباً، كان مجموعة من الأغاني، كتبتها حين أحببت «العازف» في بلد ما، في زيارتي لصديقة هناك، قررتْ أن تُداويني بما كان هو الداء، بالحب! لم يكن الشعر مبتغاي وقتها، كنت أريد أن أغني، وأن أكتب ما أغنيه، وأن يلحنه العازف، وأن تكون لنا فرقة صغيرة. أقلعت عن التدخين، وانهمكت في البروفات، لكن الحب لم يدُم، وكان حينذاك جذع الشجرة وباقي الأحلام فروعها. عدت إلى مصر، ووضعت الحلم في الكتاب: «كزهرة مسحوقة بين الأوراق» (هكذا ينبغي لنا أحياناً أن نستمتع بالاستعارات القديمة!). قررت بعد أن «مُنحت» لقب شاعرة (على الأقل من بائعي الجرائد الذين كنت أمنحهم الكتاب مجاناً، وأمرّ عليهم كي أطمئن من ابتساماتهم أنهم باعوه، وأمنحهم المزيد من النسخ المجانية المكدسة في حجرتي)، أن أواصل الطريق، فكتبت ديواناً آخر: «حظر التجول» ومسرحية «الليلة التانية بعد الألف»، وكانت الأخبار تتناثر عني هنا أو هناك. ساعتها فقط قررت أن أدخل هذا العالم الغامض: «الحياة الثقافية»، لم أكن أعرف أحداً، قرأت عن إحدى أمسيات الشعر فذهبت. لم يكن يعرفني أحد. طلبت إلقاء قصيدة من الكتاب الأول فقوبلت بضحكات مكتومة. كنتُ، كما عرفت بعدها منهم، وقد صاروا أصدقائي الشعراء، «كلاسيكية إلى حد الملل». لم يعد لدي الوقت كي أجلس معها في الشرفة، كنت منشغلة جداً بأن أكتب قصائد ليست كلاسيكية، قصائد تعجبهم، بصورها الغامضة، بنفورها كلما تحسستْ القافية حروفها. كنت أغلق الباب على نفسي بالأيام الطويلة، كمن حمل مهمة إنقاذ العالم. لا أعرف تحديداً، حتى الآن، لماذا أخرجت الأثاث كله من الحجرة، إلا من فراش صغير يكاد يلاصق الأرض، وأحطتُ نفسي بكل ما أمكنني جمعه من دواوين الشعراء، عرب ومترجمين، كأنني راقصة أفريقية تدور حول نارها. لماذا كنت أطفئ النور وأنسخها بخطّي في كراسات صغيرة على ضوء شمعة. حين كانت تقلق علي، أو ربما تشعر بالذنب لأنها ظنت أنها بالكتاب الأول ستنقذني، كانت تدق الباب، وتفتحه بحذر. وحين كانت تُبدي انزعاجها، كنت أشير لها بأن تصمت، لأنني «أحضّر» أرواح الشعراء! حين دوّى التصفيق في القاعة، أدركت أنني أتممت المهمة، وكتبت قصائد تعجبهم. لم أزل أحتفظ بها في «أجندة» صغيرة، ولم أنشرها حتى اليوم. لم أحب رامبو أبداً، ربما لأنني لا أعرف الفرنسية، لكنني أحببت على أية حال مالارميه، وهولدرلين، وكفافي. وأحببت وقتها في رامبو أن أترك كل شيء كما فعل، وكرهت الشعر كما كرهه، أو هكذا ظننت. كنت أقلب في أوراق الأجندة الصغيرة من حين إلى آخر، وذات صباح أعلنت لأصدقائي أنني: «سأترك العامية». كان القرار صادماً، حتى إن شاعراً كبيراً، أقدّره وأحبه، غضب مني. كان "يعول" علي، كما قال، وكانت قصائدي تعجبه وتعجبهم. قلت: "لأنها تعجبكم، ولا تعجبني، لأنكم «تعولون» عليّ. كنت أشعر أنني قد وصلت إلى طريق مسدود، كمن يناجي «نفسه»، كمن لم يعد يعرف لمن ولماذا يكتب! أو ربما أردت أن أبدأ من جديد، البداية الجديدة مبرر لمواصلة الحياة، بدايات متعثرة، وقصائد منسوخة من الآخرين، هكذا كان الأصدقاء يرونها، وأنا أيضاً. لكن «الرداءة» هي المعلم الأول، المحاولة وراء المحاولة أبناء الرداءة. «الدأب» ابنها الأكبر، هكذا كنت أحدّث نفسي، وأنا أرقبها في غيبوبتها الأخيرة، على سرير المستشفى، وأنظر من شرفتها لأكتب: «الخُضرة تحاصر المستشفى/ وممرات حجرية تصلح لنزهة عاشقين/ دخل الطبيب». هكذا كنت أدوّن يوميات المرض. لم تكن القصائد تهمني، كنت أكتب مقاطع قصيرة، المقطع تلو الآخر كلهاثٍ متقطع، يشبه أنفاسها. كمن يخلق لها حياةً أخرى، أو ذاكرةً ما بالكلمات. كانت «إشارة مرور في آخر الليل» من كتابي الأول «بالفصحى»: «صمت قطنة مبتلة»، كمن يصادف اللغة، وقد توقفت في سيارتها الفارهة أمام الضوء الأحمر. وفور أن التقت عينانا، مضت مسرعة، بعد أن تركت غبارها في عيني، كأي حفار قبور، يدفن موتاه، لاأكثر، لا أقل.