الشبح يعود كل ليلة.
الليل نهار الأشباح.
وفي المساء عاد الشاعر إلى البيت وشرع يقرأ قصيدة سعدي يوسف «كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة». وحينما انتهى كانت عيناه قد اغرورقتا بالدموع. ذهب الى التواليت، تبوّل وتمخط وغسل وجهه من أثر الدموع، وفي طريقه عائداً إلى غرفة الجلوس توقف أمام المكتبة والتقط «المنجد». ثم سمع طرقاً على الباب. فكر في أن يعيد المعجم الى مكانه على الرف. «المنجد» ثقيل، مع ذلك حملهُ تحت إبطه وفتح الباب.
- ستيلا!
- وماذا أنت فاعل بذاك؟ وأشارت ستيلا الى الكتاب الكبير تحت إبطه.
- هناك مفردة تحيّرني.
- وأنت تبحث عنها في المنجد؟ من الأفضل لك أن تبحث في «لسان العرب».
- أودّ أن أستخدم كلمة «أصات» عوضاً عن «ساط». ما رأيك؟
- أصات هو أن تضيف، أو تضفي صوتاً، وساط هو أن تضرب بالسوط... كم أودّ أن أضربك بالسوط لما تسبّبه لي من متاعب.
- فكرة جيدة.
- أن أضربك بالسوط؟ هل بدأت قصيدتك الجديدة؟
لم يجب الشاعر.
- انتبه، هذه ستكون قصيدتك الأخيرة.
- قصيدتي الأخيرة؟
- نعم، لقد استنفدت ذخيرتك من الشعر.
- أعرف، لقد كتبت الكثير من القصائد الرديئة. لكن هل القصائد الرديئة تُعدُّ شعراً تُحسب عليَّ أيضاً؟
- للأسف، تبعاً للمعايير السائدة، القصيدة قصيدة، وأنت استنفدت حصتك من الشعر. وهذه ستكون الأخيرة، فحاذر أن تكون أجود ما كتبت.
- لكنني سأموت يا ستيلا.
- لا أحد يموت لأنه كفَّ عن كتابة الشعر.
- أنا سأموت. إذا كففت عن كتابة الشعر فسأفقدك إلى الأبد وسأموت.
- ستكون أفضل ميتة. شاعر يكتب قصيدته الأخيرة ثم يموت. أروع نهاية!
- سأموت يا ستيلا!
- سأموت يا ستيلا! تردّ ستيلا ساخرة: «هل فكرت بالعمل في المسرح؟».
- والدتي كانت ممثلة وماتت على خشبة المسرح.
- على خشبة المسرح... كانت تؤدي دوراً.
- ماتت على خشبة المسرح وكنت صغيراً.
- هل كانت ممثلة معروفة؟ أقصد في زمانها؟
- لا، كانت ممثلة رديئة للغاية. لكنها كانت تحبّ المسرح. وهي تعرفت إلى والدي من خلال العمل في المسرح.
- هل كان والدك ممثلاً أيضاً؟
- كان كاتباً، ولكنه كان فاشلاً أيضاً. لم يكن فاشلاً... كتب مسرحيات قصيرة... ولكنه أدمن الخمر. كان يحب أمي كثيراً، وهي كانت تخونه دائماً... كانت تخونه مع كل ممثل شاب تتعرف إليه...
- فلماذا لا تكتب مسرحية إذاً؟
- أنّى لي كتابة مسرحية؟
- أكتب هذه القصة كمسرحية!
- أيّ قصة؟ ويفكر الرجل قليلاً يظنها تتحدث عن قصة أمه وأبيه وعن فشلهما. عن إباحيتها وعن إدمانه هو معاقرة الخمر. قصة رائعة للمسرح ولكنها مؤلمة بالنسبة لي.
- لا لن أكتبها... ستكون مؤلمة كثيراً.
- البحث عني أمر مؤلم؟
- البحث عن ستيلا.
- أو البحث عن سرّ القصيدة.
- مسرحية؟ وقد أصابه الهلع: «يا لها من فكرة مريعة».
- يمكنك أن تؤدّيها أنت بنفسك.
- أؤديها كلها بنفسي؟ ألعب أدوار كافة الشخصيات؟
- لا شخصيات! لا حاجة إلى أكثر من شخصية واحدة.
- مونولوج مسرحي تقصدين؟ مونولوج بعنوان «البحث عن ستيلا من خلال البحث عن سرّ القصيدة». فكرة جميلة ألا تظنين؟ ردّ ساخراً.
- عنوان طويل بعض الشيء.
- أعرف! وكتابة المونولوج ليست بالأمر السهل. ثم أين أكتبها... ليس عندي مكان مناسب لكتابة مسرحية؟
اذهب إلى بيت أبي في الجبل. إنه خاوٍ الآن، ويمكنك استخدامه، وفيه كل المؤونة التي تحتاج.
- ولكنني سأكون وحيداً يا ستيلا! سأكون وحيداً تماماً يا ستيلا.
- يا الله! ألا تكفُّ للحظة؟
- لمَ لا تأتين معي؟ تعالي معي!
- لا، عليّ أن أذهب لزيارة زوجي.
- أنا زوجك الشرعي يا ستيلا!
- كفَّ عن الحماقة!
- أمام الله وإن ليس أمام الناس. جعل يتوسل وكاد ينفجر باكياً.
- أظنه مريضاً. ردّت ستيلا بهدوء، متجاهلة توسّله: «أظنه يحتضر. قالوا لي إنه قد يموت في أية لحظة».
- وهل ستحزنين؟ أقصد إذا مات؟
- إذا مات فلن أحزن. ولكن إذا مات من دون أن أراه فهذا سيكون أمراً صعباً!
- هل تحبّينه يا ستيلا؟
ستيلا لا تحبّهُ. ولكي تتجنّب الإجابة عن هذا السؤال، تُشير إلى «المنجد» بين يديه:
- وماذا تريد من هذا؟
- أريد أن أتفحّص مفردة لأعرف ما إذا كانت تصلح للاستخدام في القصيدة الجديدة.
- أجبتني هذا الجواب من قبل. لماذا تستمر في التكرار؟ ردّت بعصبيّة، ثم أضافت بعد قليل: «القصيدة الأخيرة!».
- دعيني أقرأ لك ما كتبت!
- ما هي المفردة؟
- ساط!
- لا! لا تستخدمها، مفردة غير خلّاقة بالمرة.
- ماذا أستخدم؟
- أصات!
- ولكن المعنى مختلف.
- دعك من المعنى!
- ولكن في أمستردام قلتِ...
- دعك ممّا قلته في أمستردام!
قالت ستيلا ثم استدارت وابتعدت.
- أين أجدكِ؟ هتف الشاعر خلفها من دون أن يتوقع سماع إجابة.

وبعد أسبوع التقيا، ستيلا والشاعر، ودار بينهما الحوار الآتي:
وقالت ستيلا: لا تبحث عني!
وقال الشاعر: فكيف أجدك؟
وقالت ستيلا: لن تجدني إذا بحثت عني.
وقال الشاعر: فكيف أجدك؟
وقالت ستيلا: اسأل زوجي؟
وقال الشاعر: أنا زوجك يا ستيلا... أمام الله وإن ليس أمام الناس...
وقالت ستيلا: دعك من هذا الهذر!
وقال الشاعر: ولكنه يموت.
وقالت ستيلا: بل يقترب!
وقال الشاعر: ممّ يقترب؟
وقالت ستيلا: من الكهف.
ثم قالت ستيلا: يموتُ فعل مضارع.
وقال الشاعر: والفعل المضارع يصير ماضياً إذا لم يفت الأوان.
وقال الشاعر إنه سيذهب لزيارة زوج ستيلا على الفور.

* كاتب فلسطيني، والفصل من رواية له تصدر قريباً بالعنوان نفسه.