في ثلاثية مخالفةٍ للمعتاد في عالم القصّة القصيرة، يأتي كتاب "العطر والفقر وما بينهما" لكاتبه اسماعيل الأمين (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر). إنها رحلة التجلّي في الكتابة، بين القرية (الباب الأوّل: "من نص دين شقرا") عبوراً عبر الباب الثاني (من نص دين لندن) وصولاً إلى العاصمة اللبنانية وهو الباب التقليدي (من بيروت).
مزج بين العامية المحكية والفصحى
هي رحلةٌ أرادها الكاتب أن تكون "موحية" أكثر من مجرّد "كتابةٍ" قصصية معتادة؛ فهو يخالف المعتاد في استعماله "للعامية" كتسميات للأبواب (ولو أن عملاق القصة القصيرة المصري يوسف ادريس قد استعملها). الأمر ينسحب على "العامية" التي يبدو أن الكاتب يحبّها كثيراً، فيتركها تتحرك كثيراً في الكتاب، وهو أمرٌ قابلٌ للنقاش وبشدة في أهمية استعمال "المحكية" في قصةٍ قصيرة من عدمه (النقاش يبدأ ولا ينتهي عند مصريين مثل نجيب محفوظ واحسان عبدالقدوس ولا ينتهي باللبنانيين مثل توفيق يوسف عواد وسواه).
تدور حكايات القصص حول أمورٍ معاشة مر بها الكاتب أو سمعها، أو حتى بناها في مخيلته الخصبة. هذا البناء القصصي/ الدرامي كان موفقاً إلى حدٍ ما، وإن احتاجت بعض القصص إلى بعض الإطالة أو حتى لنهايةٍ "مختلفة" بعيداً عن النهاية المعتادة "الكليشيه" التي تجعل القارئ أمام نهايةٍ متوقعةٍ. يتحدّث الكاتب عن المقاومة كثيراً، ويسربل قصصاً كثيرةً بها، ويمر على الأسير الشهيد سمير القنطار (مهدياً إياه قصةً)، يتناول شخصياتٍ تمزج بين "جمالية" و"بشاعة" في ثنائيةٍ خاصةٍ مدهشة، يعبر برشاقةٍ عليها، ويجعلها طوع ما يريد كتابته وقوله.
في المعنى، تأتي قصص إسماعيل الأمين جزءاً من المخزون التراثي والمعرفي لمنطقته الجنوبية أولاً، ثم لتجاربه الشخصية، وصولاً حتى التجارب الإنسانية العامة. يتعامل أبطاله مع الأحداث بشكلها المباشر من دون أبعاد، وهو أمرٌ – مرةً أخرى- قابلٌ للنقاش، فالشخصيات ليست مسطحة في القصص، لكنها تفتقد أحياناً لمزيدٍ من "الأبعاد". مع هذا، فإنه لا يفقد أبداً صلته مع أبطاله، فنراهم يتحركون في ما يرسمه لهم مع الكثيرٍ من "واقعية". تأتي الواقعية في هذه المجموعة كنوعٍ مشابه (وإن بتماه) مع الواقعية المدهشة لأميركا الجنوبية. نجد الكثير من التشابيه "المحلية/ الشعبية/ المعاشة"؛ الأمر الذي يعطي المجموعة ككل نفساً جميلاً.
في المبنى؛ يمزج الكاتب أحياناً بين «العامية المحكية» وبين الفصحى في القصة عينها، لا بل الصفحة عينها، وهو كما أشرنا قد يخلق «متعةً» لدى بعض القراء، ولكن «بلبلةً» لدى بعضهم الآخر. يبدو معجباً جداً، لا بل مفتوناً حتى بالحفاظ على الجمل المحكية كما هي. لذلك يوردها كما سمعها (أو حتى فكر بها في عقله) لكنه يعود ويجيب عليها بالفصحى (عبر أبطاله). هي لعبةٌ قد تصيب وقد تخيب في عالم القصة القصيرة. على الجانب الآخر، تبدو «بنية» الجملة القصصية لدى اسماعيل الأمين «متماسكة» إلى حدٍّ كبير، فهو يجيد استعمال جمله، وهي عموماً قصيرة، رشيقة، وإن شابها أحياناً إطالةٌ قد تنهك القارئ «الجديد»؛ وبعض «النحو» صوب أسلوب الرواية (في بعض القصص). في الحرفة أيضاً، يستعمل الكاتب الأحداث المتسارعة التي تجعل القارئ راغباً في معرفة النهاية والوصول إلى الخاتمة، وهذه واحدةٌ من أهم صفات «القصة القصيرة» عموماً، وهي ميزة تحسب للكاتب وجداً.
باختصار، هي مجموعة تقرأ لأسبابٍ كثيرة أبرزها أنه فيها الكثير من ثقافة «المكان» و«الزمان»، القرية/ المدينة/ المهجر، كلها في إطارٍ مباشر، معاش، اهتم به الكاتب أكثر بكثيرٍ من اهتمامه بالبناء.