ممدوح عدوان قامة ثقافية نفتقدها اليوم في كثير مما نحتاجه في هذا الذي يحدث في بلدنا. فهو شخصية دينامية حارة تتصف باللهفة والمبادرة في حال من الاستنفار والنفير. ما يجعلني أعتقد أنه لم يكن ليستطيع الصمت أو الانكفاء مهما كانت العواقب. عاش ممدوح وهو يجسد كل ما ذكرت من خصال في حياته اليومية وفي إبداعه وفي المواقف التي كان يتخذها؛ سواء كان الأمر شخصياً أو فردياً أو عاماً؛ بدءاً من حق التعبير وصولاً إلى دفاعه عن العدالة والحرية والكرامة؛ محطماً بذلك صورة المثقف الشائعة والسائدة التي درجت عليها الحياة الثقافية في بلدنا.
كان شعلة لا تخمد في ما يعيشه وما يكتبه وما يرويه، وفي الحوار سواء مع نفسه أومع الغير؛ وكذلك في ما تنقل إليه بإنتاجه الإبداعي من القصيدة إلى المسرح إلى الرواية. لا يمكن العبور من دون تأكيد تألقه في روايته «أعدائي» ذات الأهمية الكبيرة وصولاً إلى الترجمة لرائعة كازانتزاكي «الطريق إلى غريكو»، وتتويجاً بـ «الإلياذة» وانتهاء بالدراسات النظرية والدراما التلفزيونية. لا يهدأ ممدوح في نهاره أبداً ولا يكفّ عن ليله الطويل؛ وبينهما دائماً في كل محطة يعبرها، لا بد من ضحكته الملعلعة التي يقصها مجة من العرق ولحظات من الصمت يشبه البكاء الأخرس. يعود بعدها ليراقب العالم حوله وليبعث مونولوجاً طويلاً من الرفض. ولا بد من الهمهمة ليتلمظ نهاره بكأس أو اثنين أو ثلاثة من العرق؛ ولا بد من «خشبة» في مكان ما؛ ومن الجدل و»التقريق» ولا بد من صراع الأفكار؛ فلا فرق لديه في أن يكون اليوم على الخشبة وغداً بين الجمهور. لا تدرك متى كان ممدوح يجد الوقت؛ وكيف يغربل هذا كله؛ ليحوّل خبراً إلى تعليق؛ وحدثاً إلى قصيدة؛ أو فكرة لكتاب يترجمه. وتتساءل متى سجل في قصاصاته تلك الحكايا الشعبية لتغريبة جديدة؛ وكيف جمع كل تلك الحكايا عن «سفر برلك»؛ ومتى قرأ كل تلك الوثائق ليكتب عن «أعدائي»؛ أو سوّد آلاف الصفحات عن المتنبي. يبدو أن التعويذة الأبدية بالنسبة له كانت كسب الوقت كي لا يقع في فخ «الحيونة» أو أن يبتلعه القطيع.
لقد غدا نموذجاً للإنتلجينسيا التي تقارع كل ما هو ثابت لا يتغير

السنوات العشر الأخيرة من حياته قربتني منه كثيراً، فربطتنا صداقة عميقة وخاصة تناثرت بين الأمكنة والأزمنة من القاهرة إلى ديرماما؛ ومن الصحة إلى المرض الذي استرقه. وفي التماس العميق معه وبه؛ كان يبدو لي سيمفونية من الصخب والعنف الوجداني؛ وشجاعة لا تكل، لا يلجمها أي اعتبار إلا الرفض والنقد لكل عوج يصادفه. عشية موته، غادر ممدوح سهرتنا قبيل أن نغادره نحن. استلقى في سريره كليلاً. وقبيل أن يغفو غفوته الأخيرة، ردد بصوت لا يشبه صوته ولا يشبهه؛ وإنّ هامسا: آه ! يا أمي. ليلتها عدت إلى بيتي وكتبت في مفكرتي: «كيف سقطنا في شباك مرضك؟! فأخذنا نشحن ما تبقى لنا من طاقات لنعودك ونسهر معك ولنحكي ونصخب مع كل ما تفكر به أو تقرر أن تكتبه وأنت على هذا الحال. نتأملك وتغص حلوقنا كلما أشعلت سيجارة جديدة؛ أو تجرّعت مجة إضافية من العرق! أو كلما رفضت أن تتوقف أو أن تهدأ، فنطبق فمنا على ما نستبصره في ما يدور في داخلك؟
أسقطنا مرضك في شباكه؛ ففاتنا أن نعرف ما الذي تفكر به! ولم ندرك ما الذي كنت تحاول أن لا تفقده في هذا المرض!
وحين منحت روحك للموت هكذا بلا مبالاة وبلا أسف وبلا أي خلجة أو ارتعاشة؛ صعقتنا الصورة. فأدركت ما الذي كان يدور في داخلك وما الذي كنت تخاف أن تخسره! بدا لي كأنك كنت تقول إن المرض قد انتصر عليك في كل شيء، لكني يجب أن لا أخسر رهانه معي! فرهانه أن يستلب مني ما حاولت طوال العمر أن لا أفقده... الشجاعة!
حقاً فشل كثيرون أن يستلبوا منك شجاعتك واستطعت الاحتفاظ بها على الرغم من قوتهم وسلطانهم وعسفهم، فكيف للموت برغم سخافته وتجنيه أن يسلبها؟! الشجاعة آخر رهانات العمر الذي كسبته يا ممدوح!
في كل اللقطات التي صورتها له؛ كنت أرى في عينيه فرحاً كازنتزاكي السمة؛ فرح أشبه بمن يعد مقبرة لا ديراً؛ ويسقي أحجارها وتربتها بعرق بلدي كي نجتمع من جديد لتكسّر لنا جليد الموت بيديك كما كنت تكسر لنا جليد «العرق» ولتفقع ضحكتك التي لا يجهلها أحد، لتسخر مما جرى لنا في حبنا لك حين أوقعنا مرضك في شباكه؛ فخفنا عليك من سيجارة إضافية تدخنها بمتعة وعناد؛ بينما أنت لا تقف عند ساعة اضافية أو يوم أو شهر أو سنة. فقد كنا نريد يا ممدوح أن تبقى معنا أكثر؛ لساعة أو يوم أو شهر أو سنة؛ فمرضنا بنقص الشجاعة عضال! واحتياجنا لنزقك ومقارعتك لحيونة الانسان في بلدنا معركته ما زالت طويلة.

■ ■ ■



لقد غدا ممدوح نموذجاً للإنتلجينسيا التي تقارع كل ما هو ثابت لا يتغير. لذلك، كنت كلما لمحت سيارته المرقطة بالخنافس السوداء في شارع من شوارع دمشق؛ كنت أتساءل أي سيارة يركبها رجال الأمن اليوم وهم يطاردونه من مكان إلى آخر.
نفتقدك يا ممدوح في أيامنا هذه.
* سينمائي سوري