دمشق | لكلٍّ منّا حصته من ميراث ممدوح عدوان (23 نوفمبر 1941 ــــ 19 ديسمبر 2004). بعضنا وضع يده على تركته في سحر الترجمة، وآخر ذهب طوعاً إلى نبرته العالية في الشعر، وثالث سعى إلى تلمّس حضوره في الصحافة ككاتب مقال سجالي، ولن ينسى آخرون مساهمته في المسرح، أو الدراما التلفزيونية، وربما هناك من سيهتف: عليكم بروايته شبه اليتيمة «أعدائي»، ولن نتجاهل ميزة أساسية أخرى هي فن العيش. نقصد ذلك الرجل بضحكته الهادرة وتهكّمه اللاذع وشهوته لمباهج الحياة، حتى في أكثر أوقاته يأساً. سنجد صورته بالطول الكامل في عنوان أحد دواوينه، وهو «يألفونك فانفر». لعله من هذا الباب، على وجه التحديد، أسسّ حضوره الثقافي الشامل والمتفرّد والنوعي، ألّا تألف ما أنت عليه، وألا تستكين لعبوديةٍ طارئة، أو نجومية مؤقتة. الآن بعد عقدٍ كامل على رحيله، سنكتشف، مرّة أخرى، فداحة الخسارة، وجسارة حضوره المتجدّد. من يقرأ كتابه «حيونة الإنسان» (2003)، سوف يُدهش من عمق أطروحاته في نبش طبقات القمع والاستبداد والوحشية التي وسمت حياتنا، عبر خلطة عجائبية من النصوص المتجاورة المستلّة من مرجعيات مختلفة في توثيق المصير العبثي والمؤلم للكائن البشري، سواءً كان ضحيةً أم جلّاداً، لتكتمل العبثية بتبادل الأدوار بينهما، في ما يمكن تسميته «صناعة الوحش».
هكذا، يرسم خريطة متكاملة لتضاريس العسف، وانتهاك الكرامة، وتشريح آليات الطغيان، بما يشبه نسخة عصرية من «طبائع الاستبداد»، إذ يستدرج على مراحل معجم الجحيم في توصيف «القامع والمقموع»، و»السلطة»، و»الحاشية»، و»أصل العنف»، و»الطاغية»، و»الديكتاتور»، مغلقاً أضلاع المثلث الذي بدأه بكتابه «دفاعاً عن الجنون»، وترجمته الفذّة لكتاب «تاريخ التعذيب» لمؤلفه برنهاردت ج. هروود.

هنا علينا أن نتوقف عند بعض ترجماته النوعية، مثل «الطريق إلى غريكو» لكازانتزاكيس، و»سد هارتا» لهيرمان هيسه، و»المهابهارتا» لبيتر بروك، و»الإلياذة» لهوميروس. لكن لماذا كان ممدوح عدوان يتشبّث بصفته شاعراً في المقام الأول، فيما يرغب قراؤه بالذهاب إلى حقوله الإبداعية الأخرى؟ هل لأن لقب شاعر أكثر التصاقاً بالذائقة العامة، أم أن الشاعر ضلّ قصيدته من دون أن يحتسب ذلك، عن طريق إصراره على المنبرية والمباشرة، مدفوعاً بقوة الشعار، ووهم الايديولوجيا، وانكسارات هزيمة الـ 67 التي كان صاحب «تلويحة الأيدي المتعبة» أحد أصواتها المؤثرة؟ على الأرجح، فإنّ ممدوح عدوان ظلّ عالقاً هناك، رغم محاولاته المتأخرة، في تشذيب قصيدته من منبريتها وهتافها العالي، بذهابه إلى الذات، والتخفّف من سطوة الإيقاع، خصوصاً في مجموعته «حياة متناثرة» (2003) التي تنطوي على صراخ مكتوم عن حياة بقيت مهملة في الأدراج، تبحث عن ذاتها في العتمة مثل نبتة صحراوية تتلمس طريقها في الصخر نحو الضوء، وإذا به يقارع عالماً داخلياً مهملاً ويعيد اكتشافه بعدسة تلتقط ظل الأشياء والأشخاص واللحظات المهملة وتظهيرها على مهل. كأن الشاعر في محنته الاضطرارية بسببٍ من المرض العضال، وجد نفسه أخيراً يدخل الغرفة السرية ويكتشف كنوزها المخبوءة، كنوز الطفولة البعيدة وجماليات الأشياء العادية وبورتريهات الأصدقاء، في معجم شعري جديد يهتك التصورات الجاهزة والبرانية ليغوص عميقاً في جوهر الشعر بصفته اللذة الأخيرة. يقول: «أين أذهب بباقات الأحلام الذابلة، والأناشيد المعلّقة مع البامياء والثوم؟/ ماذا أفعل بهذه الشعارات المعلّبة التي انتهت مدتها؟/ وأين أجد ظلي الذي كان يتمدد بأريحية، أمامي على الرمضاء، وكان يقتفي خطواتي، ويتسلل ورائي، ككلب الصيد؟».
هذه التحوّلات التي أصابت قصيدته أخيراً، أتت استجابة لشيوع قصيدة النثر التي حاربها طويلاً، ساخراً من مقولة «تفجير اللغة» بقوله «يخطئون في الإملاء والقواعد، فيتحول تفجير اللغة إلى تهديم للغة ذاتها»، ومؤكداً «زجّ الشاعر والقصيدة في فرن الحياة»، إلى أن استسلم لاحقاً، لفتنتها كنوع من الأمر الواقع، أكثر منه انخراطاً عميقاً في جمالياتها، فهو سيعود في مجموعته الأخيرة «قفزة في الهواء» التي صدرت بعد رحيله، إلى الإيقاع بقوة، مع اقتراب حذر من السرد، مختتماً حياته بمراثٍ ذاتية، ومحاورات مع الموت، يتناوب فيها التحدّي تارةً، والاستسلام طوراً «علام هذه العجلة؟/ بقيت كلمة لم أقلها/ وخصم لم اشتبك معه/ وفتاةً لم أغازلها» يقول. كما ستبزغ صورة الشاعر الرائي في أكثر من إشارة «سنسرد أمواتنا جثةً جثةً، وسنفرز أبناءنا قاتلاً قاتلاً»، و»أمّة مضجرة، ليس فيها وطن لنخونه». على الضفة الأخرى، سوف يحضر المثقف المتمرّد والمشاكس والشجاع، في معارك ثقافية ساخنة، لطالما أثارت زوابع حولها، وسوف نتذكّر عبارته المشهورة «إعلامنا يكذب حتى في نشرة الطقس»، وهو ما سيؤدي إلى منعه من الكتابة في الصحافة المحليّة أكثر من مرّة، كما ستطاوله إشاعات متناقضة، بقصد النيل من مكانته الثقافية، وذلك بوضع جرأته في اقتحام الأسئلة المحرّمة، في غير مكانها. إلا أنه سيمضي حتى النهاية، من دون أن يهادن أحداً. أوقفت الرقابة عرض مسرحيته «ليل العبيد»، بعد عرض يتيم، لكنه لم يهجر الخشبة، على العكس تماماً. كتب للمسرح نحو 25 نصّاً، أبرزها «هاملت يستيقظ متأخراً»، و»سفر برلك»، و»الزبّال». ثم التفت إلى الدراما التلفزيونية، وكتب نصوصاً لافتة، مثل «الزير سالم»، و»المتنبي»، و»دكّان الدنيا».
لم يكن صاحب «أمي تفتّش عن قاتلها» فرداً إذاً، بل ورشة عمل كاملة. أودع المكتبة العربية نحو 90 كتاباً، مبرّراً هذا التجوال بين مختلف الأجناس الإبداعيّة بشهيته المفتوحة للكتابة، وتنظيم وقته بحيث «تبدو سبع ساعات من العمل يومياً، كأنها سبعين ساعة» يقول. رحل ممدوح عدوان في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات «كعازفٍ يحتار في أيّة آلةٍ موسيقية يتلألأ»، وفقاً لما قاله محمود درويش عنه. لكن مقعده ما زال شاغراً، وما علينا إلا أن نقرأ «حيونة الإنسان» مثلاً، كأنه قد كتبه عن لحظة الجحيم السوري، كما لو أنه عاشها حقاً، بكل تفاصيلها ووحشيتها وتمزّقاتها، مستشهداً بما قاله ريتشارد لونيثال «تنتهي محاولة الإنسان للتمرّد على الله في عبودية كاملة للدولة، فقد أثمرت محاولته لخلق جنة على الأرض في إيجاد جهنم بدلاً منها».