كوبنهاغن ــ دُنى غالي أسْتا أوليفيا نوردينهوف شاعرة دانماركية شابة من مواليد 1988 حازت جائزة «مونتانا» الرفيعة للأدب عام 2013، ثم تبعتها جوائز أخرى. أصدرت ديوانَيْ شعر حتى الآن: «وجهٌ لإيميلي»، و«ما هو سهلٌ وما له والوحدة». ورغم صغر عمرها وقصر عمر الإصدارين، فقد حققت تجربتها نجاحاً لافتاً وأكسبتها شهرة وتوقعات من قبل النقاد بمستقبل واعد.

مبيعات الديوانين كانت ضمن المعدل بدرجة جيد، وهو معدل مرتفع لجهة أن الكتب الأكثر مبيعاً بما يخص الشعر تكاد تكون نادرة، باستثناء ظاهرة يحيى حسن (مواليد 1995) الشاعر الدنماركي فلسطيني الأصل الذي فجر مفاجأة كبرى العام الماضي، وكسر الجدار القائم بين الشعر والجمهور، وعُدّ كتابه الشعري الذي حمل عنوان «يحيى حسن» بمثابة الظاهرة، بعدما تجاوزت مبيعاته مئة ألف نسخة، وتسابقت دور النشر في ترجمته إلى اللغات الأوربية الأخرى، كما ساهمت خلفيته كدنماركي من أصل عربي مسلم، وفي بلد صغير هوموجيني كالدنمارك في تحويله إلى حالة شعرية استثنائية.
رغم الخلفية المختلفة، يشترك يحيى حسن وأستا نوردينهوف في قوة تأثير النص على القارئ بسبب فردية هذا النص وخصوصيته وفجاجته النابعة من السيرة أو التجربة الذاتية المكتوبة بتلقائية ومن دون فلترة.
ما خلّفته نصوص هذين الشاعرين احتل مساحات كبيرة في الصحف، بشكل أكبر بكثير في حالة يحيى حسن، ولكن الأهم أنها خلقت نقاشاً جاداً، بعيداً عن كوننا معجبين أم مستهجنين هذا النوع من الكتابة. وقد توسع هذا النقاش الى الحديث عن مستقبل الشعر الدنماركي؛ وهل يشكل هذا النص بذرة القصيدة في المستقبل؟ لا سيما أن الملاحظ في السنوات الأخيرة هو تميز وجِدة النص الشعري الذي يكتبه الشباب. جدير بالذكر أن الاثنين لم يُنهيما دراستيهما الإعدادية بينما احتوتهما مدرسة الكاتب للكتابة الابداعية. هل هم إذاً، الشعراء الشباب، مَن سيأخذ بيد القصيدة إلى دروب أخرى؟
يتطرق يحيى حسن الى أدق تفاصيل حياته في عالم الإجرام والمخدرات، وعندما يلعن ازدواجية منطلقات التربية العربية الإسلامية تحديداً، بينما تدخل أستا أوليفيا نوردينهوف أكثر المناطق حساسية وتحريماً:
«وعندما تكبر مع العنف والجنس، هذا الهراء، فعليك التكفير عنه طوال الوقت
عليك أن تعصي إبليس وأن تحاول أن تكون صالحاً ثانية
لدي أشياء أوْلى لأنشغل بها من أن أسعى لأكون لطيفة
لم يعد ذلك يهمني بسبب أن ذلك مرهق جداً وممل
إنه أمر غير ممكن».
تعيش أستا أوليفيا نوردينهوف وحيدة في علّيةٍ ذات سقفٍ مائل. تلّف سجائرها بنفسها، وتطمئنها الجوائز النقدية كثيراً إذ تُعينها على تسديد إيجارها. تذكر أن العمل الحقيقي الوحيد الذي مارسته هو بيع جسدها. بيت الدعارة كان بالنسبة إليها خياراً ممكناً لأنه لا يربطها بمواعيد عمل ثابتة وهي كانت تجيد ممارسة الجنس من دون مشاعر.
وفاة كل من أبيها وأمها لبضع سنوات خلت أفرز حاجتها إلى التصدي لطفولتها التي شهدت فيها عنفاً وجنساً، إهمالاً وفقراً وإدماناً وموتاً؛ مشاهد فوق قدرة تحمل طفل. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو هل يعقل أن يحدث هذا في الدنمارك؟ الأمر الآخر أن أستا أوليفيا تعود بالشعر الى مراحل سابقة له، ذات طابع سياسي من ناحيته الأخرى ساد مرحلة الثلاثينات، وإن كان مختلفاً تماماً في صيغته ومفرداته فهو يقترب بشكل غير مباشر من نقد المجتمع، ووضع الإنسان فيه، الذي يعد عاملاً حاسماً في تطوره. قد لا تقرّ الشاعرة بذلك في محل ولكنها في محل آخر تدلي بإعجابها، على سبيل المثال، بالحركة النسوية في السبعينيات، وتطالب بدور للأدب والكتّاب من أجل إقحام مختلف المآزق الحياتية فيه:
«كل شيء مفقود، من هنا حيث أكتب
أُبقي راحةَ يدي على جبين أمي لأتاكد أنها بلا حمى
أن الراحتين ليستا رطبتين
إنها تجلس على دراجتها
في الطريق إلى البحر، نقطف عنبات البيلسان
كل الحُب الذي لدي يمكن أن يكمن في عنبة بيلسان».
تذكر أستا أوليفيا أنها لا تفكر كثيراً في أمر تعرية نفسها فكل شيء مُعرّى. عاشت حياة صعبة في بيت تغيب فيه حدود الأشياء ويفتقر إلى التوازن. وهي تحاول جاهدة تذّكر ما واجهته بسبب كبتها لما تعرضت له من ضرب على سبيل المثال، ورغم ذلك فهي تتحدث عن والدها بشكل شبه حيادي رغم عنفه: «الانسان الذي يضرب آخر، الإنسان الذي يسبب ألماً فظيعاً لآخر هو الإنسان الذي يملك سلطة عظمى فعندما يمحو بنفسه ذلك الألم يكون في ذلك إثارة، بمثابة هدية من الرب، عندما يكون إنسان ما في غاية القسوة والقبح قد قرر فجأة أن يكون مُحباً للحظة».
كمّ الدمار الذي أصابها مذ طفولتها وصراعها مع الحياة لاحقاً انعكس في كل حرف كتبته، بهدوء وبشكل يكاد أن يكون بارداً وزجاجياً. ولكن ليس من دون حساسية عالية للأشياء من حولها، والسبب في ذلك لا شك يعود إلى اضطرابها والحالة النفسية التي تصاحبها، هذا العصب المتوتر والألم المستقر في الأعماق. لم تتردد لحظة في كتابة سيرتها وحياة عائلتها. وهي على يقين من كون أمها المتوفاة كما تذكر كانت ستفرح لأن أستا أوليفيا عثرت على الأقل على شيء يمكن أن تبرع في إنجازه!
نصها وإن جاء سهلاً عادياً، مرتبكاً أحياناً وبمفردات عامية يومية الاستخدام واللفظ لكنه شعر فجّ خشن من دون دراما، ومن دون محاولات تنعيم وصقل وتجميل!
«أستمني بعنادٍ أندَر وأكثر طاعة بينما هو يتأمل
عن نفسي عليّ قريباً إيجاد عمل مرة أخرى في بيت دعارة، لأننا بلا نقود
لذا بدأت التمرن ثانية، البطن، الأرداف، مضجرٌ جداً
عمل مضنٍ جدا. لكن ليس اليوم
ينزل السائل كثيفاً على فخذي إثر الاستمناء. استمناءات فرِحة، حزينة
لست أشكو من شيء أنا فقط فارغة تماماً
مستلقية وأكتب الشعر، غير حامل أيضاً، أخيراً ثانية».
تعود أستا أوليفيا نوردينهوف إلى كتابة النص الأدبي النثري، أو ما يسمى حرفياً باللغة الدنماركية النثر المكسّر، الذي انتشر في فترة السبعينيات. نص سردي يتوزع على أسطر بمحتوى موجز يكاد يخلو من الشعرية التقليدية المتعارف عليها، من دون وزن أو قافية. وفي حالة نوردينهوف، فهو خالٍ عموماً من العناوين والفواصل والنقاط التي تحيل إلى انتهاء الجمل. ولا غرابة أنها عُرفت قبل صدور ديوانها بالكتابة في مدونة إلكترونية اختارت لها اسماً كتبته بحروف كبيرة ومن دون فاصلة أو فراغ «أُدعى اسمي بحروف كبيرة».
لم تفكر نوردينهوف يوماً في الكتابة كمهنة على الإطلاق، بل إنها تقعد وتقوم وهي تفكر بكتابة نص، وذلك من شأنه التخفيف من حدة تيار الفكر المتواصل لديها، وهو أروع ما يمكن أن يحدث لها كما تقول. دافعها أبعد من أن تصدم القارىء، وإن فعلت فذلك ليس في حسبانها. حين تكتب عن الوالد الذي تركها منذ صغر سنها، عن والدتها التي تتلقى الضرب من زوجها، وعن جدتها المدماة، وآخرين تعساء في محيطها، فذلك من أجل أن تقول أن لهؤلاء مكاناً في الشعر أيضاً، وإن حياتهم هي مجموعة هذه الأشياء الأخرى أيضاً، ومن المهم أن تصفهم بمجمل نثارهم. لم تكن تعرف أن الأدب يمكن أن يسع إحباطها وزلّاتها وكآباتها. تقول إنها تكتب وهي في غمار الأزمة، لا عندما تتجاوزها وتخلص إلى نتيجة. وهو في الوقت ذاته يمثل ما هي قادرة عليه في تلك اللحظة أو الحالة، فعندما يؤلمك ظهرك يكون من الصعب عليك إخفاءُ ذلك:
«آه لو كان اسمي توربن
ولي حياة أسهل
لكنتُ وقفتُ منكوحةً
كليةً عند «سَفِن إلَفين»
واستغربتُ أن يكون اسمي
توربن ولا يعني ذلك شيئاً
مع ذلك».

(توربن اسم علم مذكر شائع، وسَفِن إليفين سلسلة سوبرماركت عالمية)





قصيدتان


1


عشبٌ رطب وأنا
ما أجمل أن أدوسه
هنا تفوح رائحة قيقب
ما هو سهلٌ وما له والوحدة
ألا تنتحر
ألا تملك نفسك تماماً
ما هو قانوني والواجبات
أن تحرص على تقديم الشاي والبرتقال للمرضى أن الحياة لا تأتينا من الخارج
أبكرُ ماءً للصباح
أعصابي أشدّ جنوناً مني

2


(إلى أخي ألبرت الذي عافه النوم على الأرجح ثانية)
أجلسُ في بيتٍ صيفي للإيجار بجهاز سولاريوم وحوامل للحبال
مثل الذي كان لدى تيلدة، سولاريوم قابل للسحب
سحبته في أول يومٍ رقدتَ أنتَ في المشفى لكي أشوي نفسي حتى الموت تضامناً
لم أصل سوى تقريباً
الهرّة الصغيرة كانت للتو قد ماتت أيضاً، تلك التي نبذتها أمنا
وجدتها متيبسة في البيت الزجاجي
انها جتلاند الغربية، مكانٌ يستحق عتابنا
سينما إيسبيرغ لا تعرض غير حب من أول نظرة، البحر في كل مكان، الرطوبة دوماً
لا عجب أنكَ جننت ومثل القطة شربتَ الحليب لأجل حياتك
وحتى لما كان الالتهاب في أشدّه، بلغ الانهاك منك حدّ أن يستمر اشتهاؤك للحليب
لا أحد حاول أن يضبط الأمر!
موظفو الصحة، أنت حصلتَ على دب أبيض، شَعرُ الكل كان مكهرباً بسبب الجو الرطب
تمنيتُ لو شاهدتَ معي الحلقات الأخيرة من «العازب»
أظنك كنت ستحب كيلسي. لم تكن مرتاحة
كانت تود أن تكون ربما ولكن لا تستطيع حين يقول أحدهم البيتُ بيتكِ
بالأمس صرتُ بلهاء تماماً لنظري عبر الخلنج
تلك الومضات البنية المزرقة الناعمة
فكرتُ كيف لجلدكَ أن يكون بذلك الشحوب الذي يجعل شرايينك مرئية حتى التي في الوجه
كيف أن تصحو كل صباحٍ بجسدٍ لا أعرف عواقبه
كيف أن تصحو بذلك الاعوجاج في الأنف، اليدان العريضتان
كيف أن يكون لك ورك ضيق، أن تقف وتغسل الصحون
كيف أن تصل حفلاً بقميصٍ بلون السرو
شعركَ الطويل، أشقر خلاف المعطف الأسود. يشعلكَ الليل
أو أكثر: ليل وليل في انسجام فارغ
هكذا يبدو عبر عدسة كاميرتي عندما ظللتُ أصوّر شعرَك
تلك الصباحات، عندما أُوقظكَ
بما أقدر عليه من هدوء عندما اقترب لأتأكد أنكَ تتنفس قبل أن ألمسك
أنفاسكَ، قفصكَ الصدري يتحرك
هنا: الليل عليل، أنا هادئة و طيعة
أقوم بما يتبع ذلك. أكتبُ وأنتَ تحيا بينما أكتب.