عندما رآه الشاعر عباس بيضون في إحدى دورات مهرجان «جرش» في الأردن، كتب أنه «كان يمشي على قلبه». كان ذلك قبل أشهر قليلة من رحيل جميل حتمل (1956 – 1994)، القاص السوري الذي عاش بقلب معطوب في منفاه الباريسي، ودخل المستشفى أكثر من مرة، وحملت المجموعة التي كتبها عشية رحيله عنوان «قصص المرض/ قصص الجنون»، بينما ضمت مجموعته «حين لا بلاد» سلسلة نصوص صغيرة سماها «قصص كوشان» على اسم مستشفى باريسي عُولج فيه.
بين المرض الدائم والجنون اليومي، عاش جميل حتمل حياته القصيرة. قصصه نفسها حدثت داخل هذه الحياة التي قضاها أولاً في حوران ودمشق، حيث فقد والدته مبكراً، وحيث سيعيش تجربة اعتقال بسبب نشاطه السياسي المعارض، ثم في باريس، حيث بدأت تجربته كقاص تنضج بعد باكورته «الطفلة ذات القبعة البيضاء»، وحيث سيفقد والده الرسام ألفرد حتمل، وحيث سينشط كصحافي ويلمع اسمه في منابر عديدة داخل العالم العربي وخارجه، وبينها عمله كمراسل لجريدة «القدس العربي» في لندن.
كتب جميل حتمل القصة القصيرة كحياته الخاطفة، والهشة والحميمة كقلبه المتعب، والمكتوبة بلغة التفاصيل والجزئيات وشذرات السيرة الذاتية. يمكن فتح أي قصة له لا على التعيين للعثور بسرعة على تلك الحساسية السردية المليئة بحالات العزلة، والحزن، والفقد، والحنين إلى البلاد، والنساء اللواتي يغادرن دوماً، والرجل العائد في المترو وحيداً، والرغبة في الانتحار، واللعب على فكرة المرض نفسها.
بطريقة ما، كان جميل حتمل اسماً داخل جيل كامل من الشعراء والقصاصين والرسامين الذين بدأت تجاربهم نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي في سوريا. ويمكن ببساطة وضع قصصه القصيرة بجوار قصائد رياض الصالح الحسين ومنذر مصري وعادل محمود، وبجوار بعض دواوين بندر عبد الحميد ونزيه أبوعفش، ويمكن وضعها أيضاً إلى جانب لوحات يوسف عبدلكي وبشار العيسى. المشترك بين كل هؤلاء وأقران آخرين هو آمال وأحلام وخيبات وهزائم تلك الحقبة. والمشترك الآخر هو اللغة اليومية والمشاهد المرئية والتفاصيل العابرة التي تتحول إلى علامات وآثار دائمة. ولذلك، لن يكون تفصيلاً عابراً أن يرسم يوسف عبدلكي بالأسود والأبيض طائراً ميتاً ونقطة دم على جناحه على غلاف كتاب «المجموعات القصصية الخمس» الذي صدر بعد رحيل حتمل. ولن يكون غريباً أن يكتب عبد الرحمن منيف في مقدمة الكتاب «جميل أميرٌ للحزن، حزنه وحزن الآخرين، نبرة الصوت، نظرات العيون، وذلك الشجن الذي يلازمه كظله. ما قدمه من كتابة شهادةٌ على العصر العربي الصعب، ولو أسعفه الحب لربما استطاع أن يعيش فترة إضافية وأن يكتب، لكنّ الرياح سارت باتجاه آخر». أما جميل حتمل نفسه الذي مرت عشرون سنة على رحيله الآن، فالأرجح أن الحلم خذله أيضاً وليس قلبه فقط. ولذلك، حَظِيت نصوصه القصصية بخيط رثاءٍ عذبٍ وموجع للذات قبل رحيله المحتوم. فقد كان كما كتب هو «أنا الرجلُ - الطفل، الرجل المنهك، المكسور كزجاج، والمبعثر كزجاج، أنا الرجل المليء بالأحزان والخطايا والطموحات، الرجل الذي لا يسمعه أحد، أو الذي لا يعرف كيف يُوصل صوته».