بالرغم من توغّل فايسبوك في حياتنا اليومية ورغم تضاعف كمّ النصوص المنشورة في هذا الفضاء الأزرق، إلا أنّ تلك النصوص لم تؤسّس هوية محددة بعد. لم تستطع فرض جنس كتابي واضح ومتمايز عن الأجناس «التقليدية» المكرّسة. كانت الشذرات ونصوص الفلاش الشكل الأبرز. وعلاوةً على هذا الشكل «الجديد»، كان قناع الشعر الذي يُلبسه الكتّاب لهذه النصوص عاملاً إضافياً في زيادة غموض هذا الشكل وضبابيته. ليست قصائد تماماً، وليست نصوصاً حرة بالمطلق. إنها هجين بين جنسين كتابيين، لم يستطع الانعتاق بعد من أبويه. هذا على صعيد الشكل، أما الحجم فقد بقي ضمن تصنيف النصوص القصيرة، ربما بسبب ارتباطه بذائقة القراءة الإلكترونية التي لا تحتمل التطويل. وبالطبع، بعيداً من هذه الحالة العامة، كانت ثمة استثناءات قليلة.
اللافت أن معظم هذه الاستثناءات ــ على قلّتها ــ كانوا كتّاباً «ما قبل-فايسبوكيين»، كأن ثمة إشارة خفيّة إلى أنّ الكتابة الفايسبوكية ــ رغم انتشارها ـ لن تكون لها الأولوية في الزمن المقبل. الكتابة لا تستطيع الفكاك من قبضة الرحم الأساسي لها: العالم الواقعي، أو العالم الورقي بمعنى آخر.
زكريا محمد (1951) ليس اسماً مجهولاً، أو كاتباً فايسبوكياً وافداً، بل هو كاتب مهاجر من الورق إلى الفضاء الأزرق. ما يميّز الكاتب الفلسطيني ــ بمعزل عن تاريخه الشعري ـ أنه استوعب الفضاء الافتراضي الجديد، بلغته وسماته، فعمد إلى «تحويل» كتابته للتواؤم مع المنبر الجديد. لم يقم بنسف تاريخه السابق، كما يبشّرنا أنبياء التواصل الاجتماعي، بل غيّر النبرة والحساسية من دون تغيير الجذور. لا تبتعد مجموعته الأخيرة «كشتبان» («دار الناشر»، رام الله، وعمان) من مناخ فايسبوك، بل إنها عملياً «مجموعة فايسبوكية» لو جاز التعبير، لكن ضمن روح الشعر الأصيلة: التأمل، والغنائية، والملحميّة. أدرك زكريا محمد أنّ الذائقة الجديدة لا تحتمل جرعة التطويل أو الملحميّة، فعمد إلى تقسيم الإيقاع والأصوات في قصيدته، من دون أن يتخلى عن الجوهر الشعري. تنقسم المجموعة/ القصيدة إلى ثلاث مراحل: التأمل، والإنشاد، ثم الخلق. وابتداء من المقاطع الأولى، يهيّئنا الشاعر للعالم المقبل. إنها «قصائد العزلة» باعترافه الخاص. ويبدو هنا كأنه يترك الجملة مفتوحة على دلالات خفيّة. إنها العزلة برغم الحشود: لم يستطع العالم الافتراضي المزدحم بالأصدقاء وأنصاف الأصدقاء والمراقبين والمتربّصين والعسس إلغاء تلك الفسحة الشخصية للإيقاع المتفرّد، إيقاع العزلة الخلّاقة.
الأنا حاضرة في الإنشاد والخلق... أنا غنائية نرجسية إلهية

«كلّ شيءٍ ينفع كبداية/ تستطيع أن تبدأ بذيل طائر التدرّج الطويل، أو بالجناح المُلغى للحجر/ وسوف تصل إلى النقطة ذاتها/ الدائرة مغلقة، والنوم خارجها مستحيل». بالرغم من القناع الظاهري لمقاطع المجموعة، المتأرجح بين الصوفية والرومانتيكية، إلا أنّ الجو الفعلي هو العلاقة العلميّة مع الطبيعة. زكريا محمد متأمل أصيل وابن للطبيعة، لذا نجد أنّ علاقته مع «أشياء» الطبيعة متفرّدة. ليست صوفية بالمطلق، وليست رومانتيكية بالمطلق، بل هي علاقة الطبيعة بالطبيعة، علاقة تعايش موقّت قبل الانعتاق أو الأفول، علاقة لا حضور لها خارج «دائرة» الحياة بتدرّجاتها ونشوئها وارتقائها. الفارق هنا هو أنّ هذه العلاقة تشبه لوعة الغصن المُنتزَع من الشجرة. حياة ناقصة لا تنتهي إلا بالعودة إلى أصله، لكن تحقّق الحياة هنا يعني موتاً في الحقيقة، ولذا تبقى العلاقة (والقصائد) متوتّرة في الفسحة بين الحياة والموت، تبقى معلّقة على حافة الأشياء. ثمة نقص، وعدم اكتمال ينتظر اكتماله. مرحلة عابرة بين الجذر والثمر من دون أن تكون زهرة بالضرورة. تشرنق أو «ليمبوس» بمعنى ما: اضطراب وعدم ارتياح للتوصيفات والأسماء الجاهزة؛ الاسم قيد، ولذا كانت العزلة/ الحرية التي لا اسم لها. ليس ثمة شيء بلا فائدة في الطبيعة. ثمة دورة حياة لا بدّ من إكمالها، سلسلة غذائية وجودية لا بدّ من إشباعها. «أما الليل، فأبصق له النوى كي يزرعه في وحله الأسود». ليس ثمة اكتمال إلا في الصخرة التي تبدو دوماً في الكتاب كأنها عنصر راحة، وطن بمعنى آخر. إنها عنصر الطبيعة الوحيد الذي يبقى خارج جميع المعادلات. القناعة، والاكتفاء، والرضى هي السمات «الأصلية» للطبيعة، قبل أن تتدخّل الطبائع الأخرى المفترسة التي تكسر هذه المعادلة. الانتقال والحركة دائمان بهدف إكمال دورة الحياة الناقصة عن طريق القضم: لا يمكن للنقص أن يكتمل إلا بإنقاص كائن آخر.
ينتهي القسم الأول التأملي بعثور الشاعر على بُغيته، أي الصخرة، لتبدأ المرحلة الثانية، مرحلة الإنشاد. «لقد غُفر لي، وعثرت على صخرتي/ وعلى الصخرة صعدت أنشأت أغنيتي». تمتد مرحلة الإنشاد فعلياً إلى نهاية المجموعة مروراً بالمرحلة الثالثة، مرحلة الخلق. كل ما يختلف هو النبرة والإيقاع. وبالرغم من امتدادها الطويل، تبدو مرحلة الإنشاد كأنها مقدّمة للمرحلة الأصلية، رغم كمونها وخفائها، أي مرحلة الخلق. الإنشاد فخ، ككل الكلام، ولا إنقاذ من متاهة الشاعر إلا عبر الشاعر نفسه حين يحدّد خطوط الحركة. يصير الشاعر خالقاً يحدّد مسيرة أشيائه. في النقطة ختام الكلام وانتهاء دور الخالق (القديم؟) وبداية الصمت والخواء قبل «انفجار كبير» آخر لكون جديد. في مرحلة الخلق، ثمة روح مستقاة من روح الكتب المقدّسة القديمة (قبل التوحيدية) التي كان الإنشاد فيها جزءاً لا يتجزأ قبل «صرامة» التوحيد. تستمر دورة الخلق ليصبح الكون السحيق كوناً جديداً بإنشاد آخر من الطبيعة وإليها، وإنْ بأدوات جديدة لا تُلغي الأشياء ذاتها، بل تنسف أسماءها. الأنا حاضرة في الإنشاد والخلق؛ أنا غنائية نرجسية إلهية، حتى عند كسر الضمير وجعله مخاطباً. إذ إنّ الصورة كلها ليست سوى أمر من خالق لكائن آخر (أدنى بالضرورة) يجب عليه الامتثال ليكتمل الإنشاد بالصمت.
يعيدنا زكريا محمد في مجموعته «كشتبان» إلى زمن الشعر الملحمي. «كشتبان»، بمعزل عن التقسيم الطارئ الذي فرضه تغيّر الحساسية الشعرية عند القرّاء، هي قصيدة ملحميّة واحدة تتدفّق بسلاسة بحسب ترتيب المقاطع في الكتاب، برغم تفاوت تواريخ نشرها مجزّأة في فايسبوك؛ تبدو «كشتبان» للعين المدقّقة لوحةً واحدة أرغمها فايسبوك على أن تكون شذرات متباعدة، ولكن الرحم الأصلي للكتابة، أي الورق، أعادها إلى بوتقتها الأساسية. وبخلاف القسم الأخير من الكتاب، وهو القسم ما قبل-الفايسبوكي، الذي بدا ناتئاً عن خريطة القصيدة الأساسية، بوسعنا إدراك أن زمن الملحمة الشعرية لم يأفل بعد.