بدا الأمر لمتابعي المشهد الأدبي السوري أنّ الانتفاضة/الحرب لم تغيّر شيئاً في الخطوط العامة للخارطة الأدبية، بل يمكن القول إنها كرّست ما كان موجوداً قبلاً. يبدو كأن الأدب السوري بحاجة إلى شيء أكبر من الحرب ليغيّر ملامحه العنيدة منذ عقود. لم تغيّر الحرب سوى المشهد البصري، بينما أبقت الكلام مرآة صامتة، بل خرساء. لا يسري هذا الكلام على «ديوان العرب» الجديد، أي الرواية فحسب، بل ينطبق بشكل أكبر على «الديوان» الأساسي، أي القصيدة.بقي الشعر السوري في حالة مراوحة خلال السنوات الأربع التي غيّرت وقائع الأرض جغرافياً، لكنها رسّخت تضاريس القصيدة السورية التي أبقت على عرشها النثري. ليس الثبات أمراً سيئاً بالضرورة، إذ يمتاز الشعر السوري بأنه البضاعة الأدبية الأفضل للكتّاب السوريين.

في ظل موت المسرح والقصة القصيرة، وتعاظم نمو الطحالب في الرواية، لم يبق إلا الشعر كأفضل ما أنتجته الكتابة السورية في العقود الخمسة الأخيرة.
أثبت شعراء العقد الأول من الألفية الثالثة أنهم جديرون بالمكانة التي انتزعوها بقوة من الشعراء المكرّسين. أخذوا من التجارب السابقة أفضل نتاجاتها، واحتكروا الحضور، بحيث ضاعفوا المسافة التي كان على من سيأتي بعدهم أن يقطعها ليصل إلى مستواهم.
ثمة شعراء سوريون أخّرهم عام ولادتهم عن اللحاق بالجيل الذي يسبقهم بعشرة أعوام، لذا تم إقصاؤهم من «جنّة» العقد الأول في الألفية، من دون أن يُعتبر نتاجهم ذا سويّة أدنى بالضرورة. جوان تتر (1984) أحد شعراء «الجيل الضائع» هذا. كان على جوان أن يدفع ضريبة تأخّر ولادته عقداً كاملاً مرتين. الأولى بأنّ قصيدته أصبحت لامرئية بشكل كبير، بحيث غفل عنها النقّاد والمتابعون، والثانية بأنه بات ابناً للمنابر الإلكترونية، خاصة أنّ الناشرين باتوا ينشرون للأسماء المعروفة أصلاً، من دون أدنى محاولة للتجريب. ولهذا كانت مجموعة تتر الثانية «بيَدَيْ مراهقٍ وقلبِ عجوز» إلكترونية، حيث أتاحها للتحميل المجاني بعد يأسه من إيجاد ناشر ورقيّ لها.
ثمة اختلاف كبير في قصائد هذه المجموعة عن باكورته «هواء ثقيل» (2010). ليس فارق السنوات كبيراً بين المجموعتين. معظم قصائد المجموعة الجديدة كُتبت عام 2012. ما الذي حدث خلال عامين بحيث يغيّر العالم الشعري إلى هذا الحد؟ ماهية هذا الأمر ليست واضحة في القصائد، ولكن أثرها شديد الوضوح. ثمة تطوّر كبير في قصيدة جوان تتر؛ في «هواء ثقيل»، كانت القصيدة مرتبكة تحاول ضبط إيقاع خطواتها، كأنها تمشي على المياه. ربما كان هذا هو هدف جوان في مجموعته الأولى: تحقيق معجزة ما بحيث تكون القصيدة كاملة منذ ولادتها، ولذا كانت غارقة في مياه الآخرين. أما الآن، فقد استعادت القصيدة توازنها على نحو مذهل، بحيث نفضت عنها غبار الآخرين، وأبقت غبار شاعرها فحسب.
ليس ثمة ثرثرة في القصائد الجديدة. إنها مشدودة ومضبوطة ببراعة. هناك اشتغال جاد على كل تفصيل دقيق فيها،
عالم الموت يحتل قصائد المجموعة بأسرها

ابتداءً بالعنوان وانتهاءً بعلامات الترقيم والتشكيل. باتت القصائد أقرب للهمس أحياناً، وللصمت في معظمها. ترك تتر كل الكلمات الكبيرة والصغيرة في مجموعته الأولى، وبدأ كتابة صمته. وفي الصمت يولد التأمل، وتندلع الذكريات. وهذه القصائد هي قصائد الذكريات، قصائد العجائز، ولكن دون حكمة زائفة أو ادّعاء رزانة. ليس ثمة داعٍ للحكمة أو الرزانة أساساً في عالم الموت الذي يحتل قصائد المجموعة بأسرها. لكن الموت في قصيدة جوان تتر موتٌ آخر، موت يحمل كل العناصر التي تجعله حياةً بالضرورة، ولكنه يبقى موتاً. الدم والهواء موجودان بكثافة في هذا العالم الشعري، لكن ليس ثمة حياة بالمعنى المتعارف عليه. ثمة حياة أخرى، كما أن هناك موتاً آخر. ثمة حياة موازية هي كل ما يريد جوان أن يحاول برهنته لنا، نحن «الأحياء»، في عالمه الشعري الكابوسي. محاولة الرؤية بالعين لن تفيدنا في شيء، إذ إنّ الرؤية والتنفّس هما للأموات والعجائز، حيث لا فسحة أو فائدة لأدوات الحياة «الاعتيادية». وكما يليق بالكوابيس، لن نجد الأمل في القصائد، إذ يبدو قطعةً زائدة لا حاجة لنا بها في هذا العالم الكابوسي الذي يمهّد للمجازر القادمة. هذا الكابوس الصامت هو النذير للكابوس الصاخب القادم.
هناك إحساس قد ينتاب قارئ «بيَدَيْ مراهق وقلبِ عجوز»، هو أنّ جوان تتر يبدو كمن يقدّم آخر قصائده. على عكس «هواء ثقيل» التي كانت تومئ إلى العالم الشعري القادم، تبدو المجموعة الجديدة كأنها تغلق آخر أبواب الكلام والشعر. ليس اختيار عبارة «نصوص نثرية» على الغلاف عبثاً. إذاً، نحن أمام نصوص لا قصائد. لم يعد للقصيدة مكان في الكابوس الجاثم بقسوة في جميع تفاصيل «حياتنا». ربما كان هذا ما يريد جوان قوله لنا عبر هذه «النصوص» التي ستصبح قصائد في زمنٍ آخر لعلّه سيأتي.