يقدم كتاب «عصر الهرمنيوطيقا/ أبحاث في التأويل» (دار الجمل) لخالدة حامد عنواناً مغرياً للقارئ المهتم بالهرمنيوطيقا كنظرية في الفهم أو كمجموعة آليات تفسيرية للنص عموماً، بيد أن جاذبية العنوان لا تلبث أن تتراجع مع التقدم في قراءة المحتوى غير الموفق لجهة الإعداد والتعريب والترجمة.يتضمن الكتاب تقديماً وخمسة فصول هي عبارة عن خمس دراسات في الهرمنيوطيقا قامت الباحثة العراقية باختيارها وترجمتها، فما هو المعيار الذي كان حاكماً على اختيار هذه الدراسات بعينها؟

إن الاختيار جاء على نية «التعرف إلى الأفكار والقضايا المهمة التي أثارها كتّاب التراث الهرمنيوطيقي» وترى الباحثة أنها «ستكون مرجعاً قلما يغفل عنه أي دارس لهذا الحقل المهم»، ولكن المشكلة أن النصوص المختارة قديمة وغير راهنة (يعود أحدثها إلى عام 1998 وأقدمها إلى عام 1982)، فضلا عن أن الدعوة التي أطلقها واحد من كبار الدارسين لهايدغر جون غرايش من أننا دخلنا العصر الهرمنيوطيقي للعقل قد بدأت بالانحسار، حيث أخذت الدعوات تتصاعد للخروج من حقبة الهرمنيوطيقا.
يُسجل للمؤلفة سلاسة الأسلوب وطواعية الجمل وترابطها
أما الإحراج الأكبر الذي يواجهه الإعداد الذي قامت به المترجمة فهو أنّ المواضيع المختارة لا تلزم القارئ المتخصص أبداً، فالمكتبة العربية قد أُتخمت في العقدين الأخيرين بمواضيع من هذا النوع، سواء على مستوى المنقول من نصوص مؤسسة لهذا الحقل أو على مستوى الدراسات والبحوث التي قام بها مفكرون عرب. نلقي نظرة على مكونات الفصل الأول المعنون بـ «نظرة في النظرية الهرمنيوطيقية منذ الأنوار» والمخصص لاستعراض نشأة الهرمنيوطيقا وتطورها التاريخي وأعلامها البارزين، وهو ما بدأ منذ عصر النهضة مع محاولات اللاهوتيين البروتستانت فك الارتباط مع النص المقدس، مروراً بأعمال المؤرخين الألمان في القرن التاسع عشر التي حولت التاريخ نفسه إلى نص كبير، وبشليرماخر وديلتاي اللذين أرسيا الهرمنيوطيقا كحقل معرفي للعلوم الإنسانية قائم بذاته، وصولاً إلى هايدغر الذي طعّم المنهج الفينومينولوجي لهوسرل بالهرمنيوطيقا المتصلة لا بفهم النص وتأويله بل بفهم تاريخية الحياة الإنسانية، وغادامر الذي حوّل الهرمنيوطيقا إلى نظرية شاملة لفهم كل فهمٍ بعامة. ونخرج بما يلي: إن إرهاصات فلاشيوس وكلادينيوس واجتهادات رانكة، درويزون، وهمبولت في التفسير التاريخي والإسهامات المؤسسة لكل من شليرماخر وديلتاي وهايدغر قد عُولجت معالجة وافية ومفصلة في القسمين الثاني والثالث من كتاب غادامر «الحقيقة والمنهج» المترجم منذ سنوات إلى العربية (ترجمة حسن ناظم، علي حاكم صالح/ دار «أويا»). كذلك، نجد تأصيلها أو تسويغها الفلسفي في كتاب لواحد من أهم الباحثين المعاصرين في الهرمنيوطيقا؛ جان غراندان «المنعرج الهرمنيوطيقي للفينومينولوجيا» (ت: عمر مهيبل/ منشورات الاختلاف). الأمر نفسه يتكرر في الفصلين الثاني (شمولية المشكلة الهرمينوطيقية، مقالة لغادامر) والثالث (مهمة الهرمنيوطيقا، مقالة لريكور) حيث جاء الكلام عنهما في تقديم الكتاب عمومياً، مبهماً، بل متعارضاً مع المحتوى، سيما ما قيل عن الفصل الثاني من كونه مقالة نقدية لجوزيف بليشر عن غادامر وهو من تأليف غادامر نفسه! يجد القارئ المتخصص ما يغنيه تماماً عنهما في ما نُشر سابقاً من دراسات وترجمات. لقد كان في إمكان الباحثة أن تقوم بإعداد مقالات من أمهات النصوص الهرمنيوطيقية المتوافرة باللغة الإنكليزية وغير الموجودة في المكتبة العربية مثل كتاب ديلتاي المهم «مقدمة للعلوم الإنسانية» أو كتب غادامر مثل «الحوار والجدل». هذا لجهة الإعداد، أما لجهة الترجمة، فإن سلاسة الأسلوب، طواعية الجمل وترابطها، الشعور الذي يرافقك طوال الكتاب بأنك تقرأ نصاً عربياً، والدقة في مواضع كثيرة – وهو ما تفتقده الكثير من الترجمات – كلها أمور تُسجل للمترجمة، وكانت لتجعل الكتاب مفيداً للقارئ غير المتخصص لولا غياب الحواشي وكشاف المصطلحات الضروريين لمعالجة المواضع المتوعّرة وجعلها أكثر سهولة على المتلقي، سيما أن في الكتاب الكثير من الجمل المغلقة التي بقيت بدون مفاتيح. بل إن هناك جملاً تفضي إلى عكس المعنى نتيجة ضعف المصطلح الفلسفي المستخدم الناجم عن عدم امتلاك المترجمة ناصية النص، وعدم إفادتها من جهود فلسفية عربية ذللت الكثير من صعوبات المصطلح الفلسفي الغربي.