مرات كثيرة فكرت في أن أكتب سيرة طفولتي، لكن الأسئلة كانت تكبّل يدي: وما الذي يربطني بذلك الطفل؟ أهو أنا حقاً؟ ثم أقتفي ذاكرة شاحبة كي تثبت العلاقة بيننا؟ وكيف يمكن لي أن أكتب عن هذا الطفل في غياب الصور؟ كيف يمكن كتابة سيرة طفولة من دون حتى صورة واحدة؟ السيرة صورة.
لكن ها أنا أحاول، بسهولة، أن أكتب عن طفولتي الشعرية، عن مجموعتي الأولى. فهل ثمة رابط بيني أنا من أرسلت إلى الطبع مجموعتي السادسة «كشتبان» وتلك المجموعة النحيلة التي لديّ نسخة واحدة منها. نسخة وحيدة، عبرت معي 35 عاماً. إنها الصورة المفقودة في سيرة الطفولة.
أضع هذه النسخة في كفّ يدي اليسرى، وأنظر محاولاً تذكّر الماضي واستعادته. فحجمها لا يزيد عن حجم الكف: 15×11 سم. قطع صغير. صغير جداً. العنوان باللون الأحمر على خلفية لوحة سوداء. اللوحة لرسام أو رسامة شهيرة في ما أظن. لكنني نسيت اسم صاحبها. التقطناها أنا وصديق رسام بعد أن فشل في أن يرسم لي غلافاً يعجبني. أخذنا اللوحة، وعمل لها رتوشاً كي تكون واضحة عند الطباعة. يعني: تجرأنا على صاحب اللوحة، وحرّرناها من دون إذنه.
العنوان «قصائد أخيرة» كان مناكفة لأدونيس وعكست قتامته الصراع الداخلي للشاعر الذي أحاول الآن أن أتذكر فكرته


حذفت قصائد تمنيت لاحقاً لو أنني ضممتها إليها. كانت هناك واحدة أحبها، لكنني خفت من دفقتها العاطفية الزائدة

اللوحة تصور بشرياً نحيلاً يحتضن ساقيه، ويضع رأسه المستدير الكبير بين ركبتيه، في حركة تعبّر عن الحزن، بل تعبر في الحقيقة عن اليأس. إنها بشكل ما تشبهني في ذلك الوقت: شاب نحيل، ضئيل، لا يوحي أي شيء بأن الآفاق مفتوحة أمامه. ويضاعف العنوان قتامة الصورة. فهو «قصائد أخيرة». إنها الوداع لا المجيء. النهاية لا البداية. بعده سيقطع اليائس وريده، وتتدلى يده النازفة من سريره، آخذةً حمرة العنوان.
لكن الأمر لم يكن هكذا بالضبط. كان وراء المشهد خيط من الحياة، بل خيط من التحدي. فالعنوان «قصائد أخيرة» كان مناكفة مع المجموعات الشعرية التي توحي بالبدايات. وبشكل أكثر تحديداً كان مناكفة لأدونيس في مجموعته الأولى «قصائد أولى». أكان العنوان يعني: الوصول لا البدء؟ لا، لم تخطر هذه الفكرة في ذهني يومها. كان مناكفة ومعاكسة مقصودة.
وأمسك بالمجموعة ناقد صحافي وقتها، فكتب أن هذه المجموعة ليست إلا «بيضة الديك». فالديك يبيض بيضة واحدة في حياته حسب الأسطورة. غير أن هذا الديك ظل يبيض بين الحين والحين. صحيح أنه لم يضع أربعين بيضة كما تفعل الدجاجات. لكنه باض ست بيضات. وهذه تحسب للديوك في الحقيقة.
لقد اكتفى الناقد برؤية ما على السطح. اكتفى بالعنوان الذي يعلن النهاية لا البداية، وبنى حكمه عليه. غير أن ما تحت السطح كان أكثر من هذا. كان حتى أكثر من المناكفة. فقتامة العنوان كانت تعكس الصراع الداخلي للشاعر الذي أحاول الآن أن أتذكر فكرته. فقد كان تُعذِّب الشاعرَ الذي كنتُه أسئلةُ الجدوى، كما كتبت مرة: «كان ثمة سؤالان يعذبانني دوماً. الأول: ما الذي سأضيفه إلى ما قيل من شعر في هذه الدنيا؟ وكان هذا السؤال يتحول إلى إحساس قاتل حين أقرأ شعراً جميلاً. أقول في نفسي: كيف لي أن أكتب مثل هذا، وأن أتفوق عليه فوق ذلك؟ وكان اليأس يسيطر عليّ من ثقل السؤال.
الثاني: كان يتعلق بالجدوى. فهل للشعر جدوى؟ هل هو قادر على التأثير حقاً؟ وأين هي ثمرته لكي أمسكها بيدي، إن كانت له ثمرة حقاً؟ ولم يكن لدي من دليل كافٍ على أن للشعر ثمرة، وعلى أن له جدوى. وكنت أقول لنفسي دوماً: أليس من الأفضل لي أن أزرع البندورة بدل أن أكتب الشعر؟ فبعد أشهر قليلة جداً من وضع شتلة البندورة في التربة سوف أبصر ثمرتها الحمراء المدهشة، وسوف أكون قادراً على أن أمسكها بيدي، بل وأن أقضمها بأسناني متذوقاً عصيرها المحيّر. أما الشعر فليس من المؤكد أن له ثمرة. كنت أريد أن أتأكد من وجود تلك الثمرة. كنت أريد أن ألمسها بيدي.
وفي المجموعة ثمة مقطع يقول: «وحين يعجبني شعر/ أودّ أن أبكي/ أو أن أقوم فأكتب من غياب الشمس حتى غيابي». إذن، فاليأس الذي تبرزه اللوحة ويبرزه العنوان يأسٌ يتعلق بالشعر. إنه سؤال شعري قبل أن يكون سؤالاً وجودياً أو شخصياً.
وأضع المجموعة في كفي، وأقلب صفحاتها الثمانين. مجموعة نحيلة ضئيلة. غير أنه كان من المفترض أن تكون أشد ضآلة. فقد كنت راغباً في أن أحذف عدداً من قصائدها. لكنني خجلت من فعل ذلك. خشيت أنني إن حذفت منها أكثر مما حذفت أن تتحول إلى مجموعة هوائية مضحكة. وقد لاحقني دوماً بعد ذلك فكرة أنه كان علي ربما أن أحذف نصف قصائد هذه المجموعة. وكنت، بالطبع، قد حوّلتها إلى مجموعة نحيلة جداً عبر الحذف. حذفت قصائد تمنيت لاحقاً لو أنني ضممتها إليها. كانت هناك واحدة أحبها، لكنني خفت من دفقتها العاطفية الزائدة. كانت فكرتي التي طورتها تدريجياً أن على القصيدة أن تكون مثل انفجار في غور المحيط. الانفجار مؤكد، لكنك لن تسمع صوته. أنت ترى فقط بقبقات وفقاعات الماء على السطح لا غير. القصيدة يجب أن تنفجر بعيداً عن عين القارئ. ومرة لقيت، بعد سنوات، صديقاً فقرأ لي قصائد لم أدخلها في المجموعة، فأوجعني أنني لم أضفها للمجموعة. ثم سجلتها من فمه، فلم يكن لدي نسخة عنها؟
أيربطني، إذن، رابط بهذه المجموعة؟
نعم. أنا صنيعة هذه المجموعة النحيلة، التي حوت اقتراحات بدروب مختلفة. كل الدروب التي سرت فيها كانت بدايتها فيها، وقد ظللت دوماً أحاول تجربة هذه الدروب. أختار درباً. أسير فيه. أوسّعه. ثم يخطر لي أن الدرب الآخر هو الدرب الأفضل، فأحاوله، وهكذا. المجموعة الأولى اقتراح، أو جملة اقتراحات.
في كل حال، كنت في العام 1981 أنتظر صدور المجموعة. وحين صدرت- وقد صدرت عن «الاتحاد العام والكتاب الصحافيين» في بيروت - أصابتني الكآبة. تصفّحتها فوجدت أن الإخراج الداخلي سيء. لم يدققها أحدٌ بعدي. كانت سطور بعض الصفحات مائلة. كما أن بعض المقاطع كانت مفقودة. أخذت عدداً قليلاً من النسخ، وظلت غالبية النسخ في مقر الاتحاد. قليلون هم من حصلوا على نسخة منها. ثم جاءت حرب عام 1982، وضاعت النسخ مع ما ضاع في ذاك الحصار المدمر.
وهكذا، يمكن لي أن أقول بشكل ما إنّه لم تكن هناك من «مجموعة أولى» ولا «مجموعة أخيرة». لقد طبعت، لكنها لم توزع. أي أنها لم تكن موجودة بالنسبة للناس. لدي نسخة واحدة منها هي الإثبات الوحيد على وجودها. إنها طبعة من نسخة واحدة؛ نسخة أقيس بناءً عليها المدى الذي قطعتُه.