منذ الظهور العلني لتنظيم «داعش»، جرى التعامل معه كأنه ظاهرة؛ أي كأنه خُلق من عدم، ونتأ فجأة من دون جذور راسخة. بقي هذا التوصيف الأكثر حضوراً في معظم الدوائر الإعلامية العالمية والعربية على السواء.كل وجهة نظر أخرى كانت تُعد تأويلية في أفضل الأحوال، ولا تستحق الكثير من النقاش، ولكن في الشهور الأخيرة، مع تعاظم توغّل التنظيم في العراق وسوريا، والانطلاقة الفعلية لـ «الدولة الإسلامية»، بدأت وجهات النظر بالتغيّر، والركون إلى رأيين على نحو خاص: يميل الرأي الأول إلى اعتبار أنّ ثمة «داعشياً» داخل كل منا، وبالتالي كان ظهور التنظيم «نتيجة طبيعية» بسبب التطرّف (الديني أو غير الديني) الكامن داخل كل منا، ولكن رغم انتشار هذا الرأي، وحُسن نيّته المفترضة، إلا أنه يحاول اختزال المشهد على نحو شبه استشراقي، حين يؤكّد وجود سمة بعينها في شعب أو دين أو عرق بعينه، أو حين يعمد إلى تعمية سياقات ظهور التنظيم، ليبدو أن من «الطبيعي» ظهور تنظيمات متطرّفة، من دون أن يكون هناك تفسير واضح لما يجري.
أما الرأي الآخر، فهو الذي كان أقل انتشاراً وأكثر دقة: «داعش» هو تجلٍّ آخر من تجلّيات «القاعدة»، وهو ابن شرعيّ لها في نهاية المطاف، لكن الحفر بشكل أكبر سيصيب الهدف بدقة تامة: «داعش» هو «أعلى مراحل الوهابيّة».
لم يكن هذا الرأي منتشراً في الدوائر العربية على نحو خاص لأسباب كثيرة ليس أقلها القبضة السعودية الممسكة بمعظم المؤسسات الإعلامية، ولم يصبح هذا الرأي مقبولاً حتى عند الأقلام اليسارية والعقلانية إلا بعد تكريسه من مراسلين وكتّاب غربيين. باتريك كوبيرن المراسل الايرلندي المخضرم، كان من أوائل من تنبّأوا بالوحش الآتي. وبهدف وضع الخطوط العريضة لجذور «داعش»، كان كتابه الأخير «داعش: عودة الجهاديين» (2014) الذي صدرت ترجمته العربية أخيراً (دار الساقي - ترجمة ميشلين حبيب) بعد فترة وجيزة من صدوره بالإنكليزية. لا بد من الإشارة بداية إلى ملاحظتين: الأولى هو الخطأ في لفظ اسم كوبيرن («كوكبيرن» بحسب غلاف الطبعة العربية)، وثانيهما الاختلاف في العنوانين الإنكليزي والعربي للكتاب، فالعنوان الأصلي هو «عودة الجهاديّين: داعش والانتفاضة السنّية الجديدة».
كان من الأفضل للمترجمة و«دار الساقي» إبقاء العنوان على حاله رغم مباشرته، إذ إنّ كثيراً من أفكار الكتاب الأساسية تستند إليه. ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام أساسية: القسم الأول يركّز على جذور «داعش» وامتداداته. القسم الثاني يركّز على السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العراق وسوريا التي أدت إلى تضخّم «داعش»؛ فيما يركّز القسم الأخير على التغطية الإعلامية المنحازة أثناء «انتفاضات الربيع العربي». يؤكد كوبيرن في القسم الأول،
التقارب السوري السعودي بين 2005-2009، كان السبب الأكبر في زرع بذور التطرف
بأنّ إحياء تنظيم «القاعدة في العراق» تزامن مع «الثورة السنّية في سوريا عام 2011». ظهور «داعش» كتنظيم مستند إلى الوهابية و«القاعدة»، ما هو إلا نتيجة طبيعية للتهميش الذي طاول السنّة في العراق وسوريا، ولا سيما في السنوات التي تلت احتلال العراق عام 2003. هنا، يبدو لعنوان الكتاب الأصلي دلالاته المباشرة. بالرغم من خبرة ودقة كوبيرن في تغطياته عن الشرق الأوسط، إلا أنه يقع في فخ اختزال المشهد إلى عناصره ما قبل - الوطنية، الطائفية على نحو خاص، بحيث يبدو الأمر، للقارئ الغربي تحديداً، مقتصراً على جماعات طائفية صودف أنّها تعيش في هذه المنطقة المشتعلة، فاكتفت كل جماعة بالعودة إلى «جذورها» الأصلية الطائفية للدفاع عن نفسها. الأمر ليس بهذه البساطة. رغم كمونها في جميع دول المنطقة (باستثناء لبنان)، لم تكن الطائفية هي العنصر الأوضح لتقسيم الجماعات. ولم ينتشر هذا الرأي إلا بعد احتلال العراق عام 2003 على نحو خاص. ليس هذا التزامن بريئاً بكل تأكيد، لكنه ليس سبباً مطلقاً لتفسير كل ما حدث.
لكن لو اكتفينا بالمرحلة التي تلت احتلال العراق، قد يكون في كلام كوبيرن شيء من الصحّة في ما يتعلق بالعراق في ظل الحكومات المتعاقبة، ولا سيما حكومة المالكي، لكن اختزال الانتفاضة السورية بكونها «ثورة سنّية» يُخفق في التقاط الجذور الفعلية للحراك، من جهة، ويكرّس تقسيماً طارئاً ـ رغم انتشاره ـ ليكون هو التقسيم الأوحد في الحالة السورية. اكتفاء كوبيرن بالإشارة ضمنياً إلى أن نظام صدام حسين كان سنّياً، ونظام الأسد علويّاً، يعني بالضرورة الوقوع في مطب التوصيفات الجاهزة التي لم تكن لتخفى على مراسل بهذه الخبرة، لكن خلوّ الساحة الإعلامية العربية من أبحاث أكاديمية جادة، سيجعلنا، لفترة طويلة، أسرى الأبحاث المختزلة، بصرف النظر عن مدى حُسن نيّتها.
إلى جانب التقاطته الذكية للجذور الوهابية لـ «داعش»، يشير كوبيرن في موضعين من الكتاب (بعجالة) إلى السبب الآخر الفعلي لتفجّر الحالة الداعشية في المنطقة. إن غياب الدولة الوطنية كان ولا يزال السبب الأكبر في تحوّل المنطقة التي كانت، في فترة ليست بالقصيرة، أقرب إلى صيغة «التعايش» التي استطاعت، رغم هشاشتها، حفظ المنطقة من الانفجار ولو إلى حين. فـ «في غياب الوطنية – حتى حين تكون الوحدة الوطنية من قبيل الخيال التاريخي – ستفتقر الدول إلى أيديولوجية تمكّنها من مناقشة المذهب الدينية والمجموعات الإثنية كمحور للولاء». أي، لم يكن المال الوهابي وحده سبباً في توغّلها في المنطقة لو لم يجد «تربة خصبة»، وهذه التربة ليست «غريبة» بالمطلق، كما تميل معظم النظريات اليسارية المتفائلة خصوصاً إلى القول، إذ إنّ انتشار الوهابية في العراق يختلف عن انتشارها في سوريا. في العراق، وبعد ترويج «سنيّة» نظام صدّام، كان تهميش السنّة سبباً قوياً في انتشار الوهابية. أما في سوريا، فكان التقارب السوري - السعودي بين عامي 2005-2009، برغم هشاشته، السبب الأكبر في زرع بذور التطرف الذي غفلت عنه السلطة السورية لأسباب كثيرة.
يختم كوبيرن الكتاب بالتركيز على قضيّة التغطية المنحازة لـ «الربيع العربي». يختصر الأمر في جملة شديدة الدقة، حين يشير إلى أن «المكوّنات الأساسية لأي قصة جيدة عن الفظاعات المقترفة هي أنها يجب أن تكون صادمة لا افتراضية ويمكن نقضها بسهولة»، طارحاً المثال الليبي الشهير حين ذاعت قصة «منهجية الجيش الليبي في اغتصاب النساء في المناطق الثائرة»، وعدد من الأمثلة الأخرى انطلاقاً من حرب الخليج عام 1991، وصولاً إلى الحالة السورية.
بالرغم من هفواته وصغر حجمه وضبابيته أحياناً، يبقى كتاب باتريك كوبيرن «داعش: عودة الجهاديين» أحد أهم الأعمال التي التقطت السياقات الحقيقية لتنامي تنظيم «داعش»، والجماعات الجهادية عموماً. يكفي أن يكون كتاب مراسل صحافي أفضل بمراحل وأكثر جرأة من عشرات الأبحاث «الأكاديمية» التي ظهرت أخيراً، لنعلم بأننا أمام عوائق فعلية تُسهم، على نحو متعمَّد، في حرف التوجّهات البحثيّة بعيداً عن الجذر الوهّابي، لأغراض ليست بريئة بكل تأكيد.