ليندا حسين *
كي يبقى كل شيء على ما يرام

كنت أقف هناك تفصلني عنها بضعة أمتار، وكنت ـ مصدومة ـ أتأمل والدتي وهي متكومة على الأرض، متمنية لو أنني مت قبل أن أرى هذا المشهد.
الفكرة الوحيدة التي سيطرت علي هي أنني في العشرينات وأمامي عمر طويل كي أمحو هذا الشعور بالخزي من داخلي ولأشوش هذا المشهد في ذاكرة هؤلاء السفلة الذين تجمعوا على سطوح منازلهم وبلاكينهم ليتابعوا المشهد الحي لاقتتال بالأحذية بين أم وابنتها، أما أمي، فقد كانت قد تخطت عتبة الستين، وقد لا يكفيها ما تبقى من عمرها لمحو هذا العار.

هكذا فكرت.
كنتُ قد خرجت غاضبة من المنزل، متوجهةً – لم يعد مهماً إلى أين كنت متوجهة - وكانت أمي طوال الصباح تتوسلني كي لا أذهب، مرددة بطيبة ورجاء: «إن كل شيء في هذا البلد تقريباً على ما يرام»، وكانت توسلاتها تتحول إلى شكل من التهديد ثم الابتزاز، وذكرتني بغضب أبي، وحاولتْ منعي بالقوة من الذهاب، ولكنني هربتُ من البيت مهددة بألا أعود ثانية إلى هذه المرأة المتسلطة، الملقاة الآن على الأرض، وإلى ذلك الرجل الذي سمحتْ له هذه المرأة الغبية بأن يكون أبي.
هكذا خرجتُ مهرولة وقد عقدت النية على ألا أعود إليهم أبداً. أمي التي حاولت اللحاق بي، والتي تعثرت للتو وهي تجري خلفي بثياب النوم، كانت - قبل أن تتعثر وتقع - تشتمني بصوت عال وتأمرني بالرجوع، وكنت أتمهل قليلا ثم أتابع سيري، وكان تصميمي يكبر مع ارتفاع حدة تهديدات هذه المرأة وابتزازها، وهذه المرأة جرت خلفي وبدأت تتحدث إلي بصوت عال سمعه كل الجيران، مبررة – لي وللجيران - خوفها وذعرها على حياتي ومبررة محاولتها منعي من الخروج بالقوة، ومعبرة عن حبها، وكنت أدير لها ظهري وأبتعد، لكنها لسوء حظي تعثرت ووقعت، وأثناء كل هذا زاد عدد الجمهور على البلكونات وخرج بعض الرجال والنسوة من دكاكينهم ليتابعوا الفيلم الحي.
حين أدركتْ أمي أنها لن تلحق بي، وأنني سأذهب مباشرة إلى حيث ينبغي ألا أذهب، خلعت فردتي حذائها ورمتني بهما، وقد تطايرتا خلفي وزادتا من غضبي، فالتقطتهما ورميتها بهما، وعندما لم تصب ضربتي، خلعت فردة حذائي ورميتها باتجاهها، وقد أصبت هدفي. عندها فقط سالت دمعتان على وجهها، وعندها فقط فكرت في أنني في العشرينات وأنها اجتازت عتبة الستين، وأن أمامي حياة بطولها وعرضها لمحو هذا المشهد الحزين المخزي من ذاكرة الممثلين وذاكرة الجمهور، أما هي، فلن يكون أمامها متسع من الوقت لنسيان هذه القسوة، والتخلص من ذاكرة هؤلاء القردة الفضوليين، إنها المرأة الحنون والقاسية التي هدرت عمرها لتربية أولادها وحمايتهم وتبرير فعائل زوجها أمامهم. كنت عازمة بالتأكيد على الهرب منها والتوجه إلى حيث كنت أنوي التوجه، لكنني تراجعت، تراجعت حافية وغاضبة، غاضبة من دموعها، وغاضبة أكثر لأنها تعثرت.
رجعت إليها، وعندها فقط نهضت. ارتدت كل منا حذاءها، واتجهنا إلى المنزل.

صورة


كل من شاهد صورة نازك، قال إن وجهها يبدو مثل شمس، وأحيانا مثل قمر، وأحيانا مثل بحيرة يسبح فيها البجع.
الصورة المأخوذة منذ زمن بعيد، حين تأملتها نازك اليوم، انتبهت للمرة الأولى إلى خيال حبيبها السابق في عينيها، اللتين تضحكان، منذ سنوات، بلا توقف، في الصورة.
يبدو واضحاً ظلُّ الرجل الممسك بالكاميرا. كان هناك، في العينين، ولا يزال، منذ سنوات، وهي تراه الآن، للمرة الأولى، الرجل الذي لم يبق له من أثر، سوى هذا البريق الذي يجعل وجهها، في الصورة، يبدو مثل سماء مرصعة بالنجوم أو نهر تسبح فيه زوارق الصيادين أو بحيرة للبجع.

ناشيونال جيوغرافيك

شمبانزي، سرق الصيادون أصدقاءه وحشروهم في شاحنة. الشمبانزي ركض مذعوراً خلف أصدقائه. ركض.. وركض.. حتى اختفى آخر أثر للشاحنة، ليملأ الشمبانزي بزعيقه الهستيري فضاء الغابة.
أنا.. هو هذا الشمبانزي بالضبط. مذعورة من الوحدة، من وحشة هذه الغابة، إلا أن كبريائي تمنعني من الركض في أثر أحبتي، تمنعني حتى من تلويحة. وأؤكد لكم أنني لست أقل ذعراً ولا أقل حزناً من ذلك الشمبانزي، وأبقى متسمرة أمام الشاشة التي تعرض عريه، أحدق فيها مثل تحديق بشر في المرآة.
* كاتبة سورية