بعد أربع سنوات على رحيل المفكّر الجزائري محمد أركون (1928 ــ 2010)، ها هو يعود إلى الواجهة من باب موارب. «سيلفي» ابنة العلّامة الذي انخرط طوال ربع قرن في مشروع نقد العقل الإسلامي، فكان نصيبه التكفير والنبذ الرسمي، أصدرت أخيراً كتاباً بعنوان «حيوات محمد أركون» (منشورات Puf ـــ باريس) الذي هو «عبارة عن قصة بحثي الشخصي عن أبي، وسيرته، وتحية إلى المعارك التي خاضها في آن» وفق ما جاء في الكتاب.
حين رحل أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في «جامعة السوربون» عن 82 عاماً، كان شبه مجهول بالنسبة إلى ولديه. الانفصال المؤلم عن والدتهما، وحياته التي كرّسها لمعاركه وانشغالاته الفكرية، وزواجه الثاني... كلها عوامل أسهمت في ابتعاده عن عائلته. لكن خلال الأسابيع الأخيرة التي أمضاها في المستشفى في باريس، تسنى لابنته سيلفي إعادة ترميم هذا الجسر مع والدها. على سرير الموت، جمعتها لحظات شخصية وحميمة بوالدها، قبل أن يذهب في رحلته الأخيرة ليوارى في ثرى الدار البيضاء بدلاً من بلده، حيث عانى التكفير والاضطهاد الرسمي. انطلاقاً من هذه اللحظة، قررت الابنة الخمسينية العودة إلى الوراء، في رحلة بحث عن والدها الذي ظلّ شخصية مجهولة بالنسبة إليها. الكتاب الصادر حديثاً هو خلاصة هذا البحث بعدما التقت سيلفي بشخصيات رئيسية في مسيرة «آخر المعتزلة»: أخوه أعمر، وزميله علي مراد، والمؤرخ محمد حربي، فأضاءت على جوانب كثيرة مظلمة في حياة صاحب «العلمنة والدين». لحظات عدة أساسية نطالعها في الكتاب، فنرى مثلاً كيف عايش حرب التحرير الجزائرية من فرنسا، ممزقاً بين نزعة الحرية والاستقلال، وحبّه للثقافة الفرنسية، كما تقارب علاقته المعقّدة بوطنه الأم الذي لم يعترف به، في حين كان يستطيع التعبير بحرية أكبر في تونس أو الرباط. نستكشف كذلك تلك الصلة القوية التي كانت تربطه بمسقط رأسه في منطقة القبائل، رغم أنّ آخر زيارة قام بها تعود إلى عام 1991. وترافق كل فصل من الكتاب مع نشر رسائله الكثيرة للأب موريس بورمانز أحد أبرز وجوه الحوار الإسلامي - المسيحي. صداقة تمتد على مدى خمسين عاماً، ورسائل كان أركون يوقّعها دوماً بعبارة «عبدك الحقير». تقول سيلفي في الكتاب: «أبي كان مفكّراً كبيراً ومعروفاً في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. لذا، حاولتُ البحث في حياته كرجل وفي تاريخه الشخصي المتداخل بشكل رهيب بتاريخي الجزائر وفرنسا. بحثت عن إشعاع نجاحه، لكن أيضاً عن الجانب المظلم، مع تعداد نقاط القوة والضعف لهذه الشخصية بإنسانيتها الكاملة. (...) صحيح أنّه والدي، إلا أنّ العديد من وجوهه المختلفة كانت أرضاً مجهولة بالنسبة إليّ. بحثت، والتقيت بأناس، واستجوبتهم، وهذا الكتاب هو عودة إلى هذا الإرث المذهل الذي جعلني أكتشفه بمفردي. إرث الجذور، والعائلة، وغناه الفكري العظيم. الخيط الكرونولوجي الوحيد الذي يتبعه هذا العمل هو بحثي الشخصيّ في السنة التي تلت رحيله. أدخلت في هذه الرحلة الطبيعية أجزاء من حياة والدي تقتفي أثر طفولته ومراهقته في الجزائر، ووصوله إلى فرنسا عام 1954، والتمزّقات التي عاشها نتيجة هذا الانتماء المزدوج، والمفارقات العاطفية في حياته الشخصية، ومعاركه من أجل إسلام تنويري. أردت توجيه تحية إلى الرجل المركّب الذي كانه، وإلى الإنسانوي الشغوف الذي ناضل طوال حياته من أجل ترسيخ نظرة جديدة للإسلام وعنه، كما منظور جديد إلى مفهوم الإيمان بشكل عام».