رامي طويل*
من الحانة خرج الكاتب مع أصدقائه فرحين مخمورين، يتضاحكون في الشارع الخاوي إلا من بعض القطط والكلاب الشاردة. نظّارة الكاتب الشمسيّة التي رفض التخلّي عنها طيلة السهرة كانت مصدر تندّرهم وضحكهم المتواصل.
-لمَ لا ترفعها عن عينيك بعد غياب الشمس؟
-أحتاج إلى عتمةً مضاعفة لأفهم ما يدور من حولي
أجاب عن سؤال صديقه بجديّة مفرطة زادت من صخب الضحكات المترنّحة. ما أثار انتباه عنصري الأمن اللذين كانا يقطعان الشارع جيئة وذهاباً منذ بداية المساء.

دنا عنصرا الأمن من المجموعة المخمورة وبصيحة واحدة من أحدهما تمكنا من إخماد صوت الضحك. ليخيّم على الشارع صمت ثقيل. وقف العنصران أمام المجموعة يمعنون فيهم بنظرات اتّهام تخترق العتمة لتصيب أفراد المجموعة بالذعر وقد تلاشى من رؤوسهم أثر الخمر الذي شربوه طيلة المساء. وحين همّ أحد العنصرين بالحديث إلى المجموعة، وقبل أن يتفوّه بكلمة، وقعت عيناه على نظّارة الكاتب المستقرّة فوق عينيه. ما أثار استغرابه وخشيته.
-لماذا ترتديها؟ هل تؤذي عيناك شمس المساء؟
قال متهكّماً، مخفياً خلف نبرته خشيةً مبطنّة، وقد احتاط، بحسّه الأمنيّ، لأيّ إجابة سيسمعها. لكنّ أحد الأصدقاء فاجأه بتدخلّه السّريع، معرّفاً عن صديقه الكاتب والصحافي المعروف في محاولة منه لتحصينه من أيّ فعل شائن قد يلجأ إليه عنصرا الأمن.
-وماذا تكتب؟
-أكتب أشياء لا يمكن أن تقال.
أجاب الكاتب كاتماً ضحكة اعتملت داخله، ما أصاب عنصري الأمن بالحيرة أمام إجابته. فتبادلا سريعاً نظرات متسائلة فضحت ارتباكهما. ما دفع أحدهما أن يمدّ يده بسرعة، وبحركة خاطفة، انتزع النظّارة عن عيني الكاتب.
-حسناً. سأستعير نظارتك وأتركها معي تذكاراً من كاتب معروف. وعليكم الانصراف حالاً قبل أن أعتقلكم بتهمة التجوّل في الشارع مخمورين.
قال ذلك بنبرة آمرة، مستعيداً سطوته، وهو يلوّح أمامهم بالنظارة.
استدارت المجموعة بغية الابتعاد، غير أنّ الكاتب بقي متسمّراً مكانه يحدّق إلى رجل الأمن بنظرة غيظ وغضب، ما دفع الرجل للابتسام.
- أعرف أنّها غالية الثمن، وأنّك فخور بها حتّى تضعها على عينيك ليلاً. لكنك لن تحصل عليها. سأتذكرك بها دائماً.
قال عنصر الأمن متهكّماً، واستدار مع رفيقه، مبتعدين بسرعة. وحين همّ الكاتب باللحاق به، أمسك به الأصدقاء، ودفعوه للسير معهم ممازحينه:
- قلنا لك لا داعي لها في الليل.

■ ■ ■


مضت شهور على الحادثة دون أن يستطيع الكاتب التخلّص من غيظه، أو نسيان الحكاية التي أدمن روايتها في كلّ مكان يجلس فيه. وهو ما دفع صديقه الصحافيّ، المعروف بولائه وعلاقاته الوطيدة بأجهزة الأمن، إلى الضّحك مطوّلاً حين سماعه الحكاية.
-من الجيّد أن عناصر الأمن لا يعرفون أسماء الكتّاب المعارضين، وإلّا لما اكتفى ذلك العنصر بأخذ نظّارتك فقط.
ومن ثمّ قدّم عرضه الذي فاجأ الكاتب:
-ما رأيك لو نعثر على ذلك العنصر، ونستعيد النظّارة منه؟
ما كان الكاتب يطمح لأكثر من ذلك، ما دفعه إلى قبول العرض بسرعة، مع معرفته المسبقة أنّ رفيقه لا يجد في الحكاية أكثر من مادّة مسليّة. ولم يحتج الأمر غير اتصال هاتفيّ طويل، استطاع الصحافيّ من خلاله الحصول على اسم العنصر الذي كان مكلّفاً حماية ذلك الشارع في تلك الليلة، وكانت المفاجأة المذهلة بالنسبة للكاتب هي المعلومة التي أضافها رئيس فرع الأمن لصديقه الصحافيّ على الهاتف. والتي تفيد بأنّ هذا العنصر يخضع لعقوبة تأديبيّة في أحد السجون، نظراً لخروجه عن أخلاقيات عمله، وتعرّضه للنظام الحاكم بالانتقاد، وتطاوله على رئيس الجمهوريّة بشتائم مقذعة على الملأ. الأمر الذي زاد من فضول الكاتب ورغبته بلقاء ذلك العنصر، ومحاولة استعادة النظّارة منه. وزاد من رغبة صديقه الصحافيّ بمزيد من التسليّة، فاستحصل على إذن من رئيس فرع الأمن لزيارة العنصر في زنزانته.
في الطّريق إلى الزنزانة اطمأن الكاتب إلى أنّ نظّارته لا تزال بحوزة ذلك العنصر، حين سرد لهما مرافقهما الحكاية الغريبة للعنصر المسجون، التي بدأت منذ ارتدى نظّارة شمسيّة وراح يرفض أن ينزعها عن عينيه ليل نهار، وأبلغهما أنّ آمر السجن ما زال يفرض عليه، كعقوبة إضافيّة، ارتداءها داخل الزنزانة حتّى أثناء نومه.
أمام قضبان الزنزانة وقف الكاتب مع صديقه ومرافقهما، وقد شعر بشفقة كبيرة على العنصر المسجون، الذي ظهر لهم من خلف القضبان شبحاً شبه عارٍ، وقد شوّه جسده جرّاء التعذيب الذي تعرّض له، لكّن صديقه الصحافيّ لم يرَ شيئاً من ذلك، وكلّ ما فعله أنّه أطلق ضحكة مدويّة فشل في كتمانها وهو يرى العنصر السجين يقبع في ركن من الزنزانة المظلمة واضعاً نظّارة الكاتب الشمسيّة على عينيه:
-إنّها تليق به أكثر منك صدّقني. عليك أن تتركها له.
قال لصديقه وهو يضحك بشكل متواصل. لكنّ الكاتب لم يكن يستمع إليه لانشغاله باستعادة نظّارته، وهو يراقب بمزيد من الشّفقة حال السجين المزرية. وحين نادى المرافق على السّجين ليدنو من البوّابة أحسّ الكاتب بغصّة بالغة وهو يراه يجرجر ساقيه، ويدنو منهم بصعوبة. إلّا أنّ السجين فاجأ الجميع حين قال له المرافق:
-يأمرك سيادة العقيد بأن تنزع النظّارة عن عينيك الآن. وتعيدها لصاحبها.
فما كان منه إلّا أن نزع النظّارة عن عينيه بسرعة فائقة، كمن يريد التخلّص من وباءٍ أصابه، وقام برميها ناحية الكاتب وهو يصرخ بشكل هيستيريّ منادياً بحياة القائد، مفتدياً إيّاه بالرّوح والدّم.
لم تمضِ غير أسابيع قليلة حتّى علم الكاتب من صديقه الصحافيّ، المستمرّ بمتابعة الحكاية طمعاً بمزيد من الفكاهة، أنّ عنصر الأمن قد أطلق سراحه، وبات المكلّف رئاسة كلّ الدوريّات الموكلة إليها حراسة شوارع العاصمة.
*كاتب سوري