غسان زقطان *
امرأة غريبة في المقهى

المرأة التي لم تبعث لي رسالة واحدة ولا تتلفت نحوي
التي صادفتها في مقهى «اللاتيرنا» الدمشقي و«المودكا» البيروتي
والتي جلست في المقعد المجاور في «سيدي بوسعيد» في تونس
التي كانت تدير ظهرها وتحدق في المحيط في أغادير.

المرأة التي لا تعرفني ولا أعرفها
صادفتها اليوم من جديد، لقد فعل بها الزمن فعله،
كبرت قليلاً وسمنت عند الوركين، ثمة خطوط سوداء تحت عينيها،
ولكن صدرها ما زال فتياً،
يمكن ملاحظة ذلك من خلال قميصها الذي تركته مفتوحاً دون قصد،
كانت تجلس وحيدة تقلّب صحيفة اليوم، التي يوفرها المقهى مجاناً،
طلبت ماء بارداً وقهوة سوداء
ودخّنت ثلاث سجائر.

بنت في العباسيين

ما الذي حدث لتلك البنت في «العباسيين»
كانت خائفة من رجل المخابرات في الطابق الأول وجلوسه المتوعّد على مدخل البناية
كانت خائفة من الولد في الطابق الثالث
الذي كان يهديها زهوراً من الحديقة العامة، أصبح «مجاهداً» فيما بعد،
أفكر بحُججها الصغيرة وخجلها وهي تصعد حافية عتمة الدرج الى السطح لترى دمشق من غرفتي،
والضوء في عينيها العربيتين واللكنة التي احتفظت بها من أمها اليونانية،
بينما تصل موسيقى من شقة العازبين الفلسطينيين
اللذين وصلا من بيروت بأسماء مزيفة وكوابيس من حرب الصيف،
الذي كان يحلق ذقنه على النافذة والآخر الذي يسهر في الليل،
والناس، الناس الذين كانوا يلوحون لها، كل ليلة، قبل أن يختفوا في الشقق الأخرى؟
لم أفكر بها منذ ثلاثين سنة
وها هي الحرب تأتي بها من جديد،
وها أنا أحدق بخطوط ظهرها الرائعة فيما تتشبث بحافة النافذة لترى المدينة.
ما الذي ستفعله الآن
وليس لديها سوى أخٍ مجنّد وثلاثة أضرحة في مقبرة المسيحيين!

لم تكن لك يد في ذلك

لم تكن لك يدٌ في ذلك
التي أبصرت كانت عيني
والتي لمست كانت أصابعي
والذي دقّ كجرس في برية كان قلبي
والذي اهتدى وضلّ كان جسدي
ولا ألومك على ذلك
فقط لو تطفىء الضوء
لأرى ما رأيت.

لا أنت ولا أنا

البياض هبط من الجدار ووصل البساط الفارسي
أضواء الحافلات ترج السرير والظلال
وثمة هسيس يأتي من لوحة الشتاء المعلقة على العتمة
الهسيس الذي يضيء الغابة في كوابيسنا.
دوريّات الحرس ونداءاتهم تقلق الحشائش والطيور الهاجعة
وتترك الفتى المختبئ في الحفرة مثل قطعة قماش ميتة.
المرأة التي يغتصبها زوجها، كل ليلة تقريباً، غفت على النافذة بانتظاره.
الولد البكّاء ابن جارتنا المسيحية ما زال يصرخ تحت الناموسية
بينما أمّه تشير بيديها الاثنتين نحو العتمة.
الأرملة تتفرج على الصور وتضحك من كل قلبها.
الرجل الذي يغتصب زوجته، كل ليلة تقريباً، رجع من شغله وأغلق النافذة.
جارتنا المسيحية، أم الولد البكّاء، تصلي أمام الناموسية حيث غفا الولد وهو يُنهنه.
في الحفرة تكوّر الفتى مثل جنين، وكان هناك من يصرخ بين الظلال.
نامت الأرملة، دون أن تتغطّى كالعادة، نهداها يتنفسان تحت الضوء الجانبي بقلق
وركبتها تلمع
بينما في الصورة
يضحك رجل سمين مثل طفل وهو يتفرّج عليها.
لا أنت ولا أنا
يمكنه الغناء وحيداً في هذه البرّية.

تمطر على الشارع القصير المشجر

أهبط الشارع القصير المشجّر
من مطعم «الأنجلو» إلى «البلدية»
هناك رأيت إدوارد سعيد للمرة الأولى
يتوكأ على إبراهيم أبو لغد،
وقتها، كانت تمطر تحت،
تحت مشيهما المتمهّل، في الشارع القصير المشجّر
كانت تمطر على الرواية، على القماش القديم الذي يغطي الأولاد المتروكين في القوارب المثقوبة
على الواقفين في المنعطف؛ المرأة التي ترتدي معطفاً رجالياً، والرجل الذي يغمر رأسه بيديه متكئاً على النافذة بعد منتصف الليل.
تمطر دون توقف وتتنبّأ

وتبرق
وترعد
على الشواهد والمنارات،
على حكماء البلاط والكهنة والشعراء،
على خطباء الساحات العامة والقضاة والممثلين، والأئمة الجدد والوُعَّاظ والأولاد الغرقى والبنت الموؤودة في الفتوى.
تمطر على منتظري البرابرة
وعلى البرابرة الذين وصلوا، دون انتظار، بعد الخاتمة
ونصبوا مخيمهم على حافة الجرفْ.
تمطر على حديث الرجلين وهما يواصلان ذهابهما تحت قوس الكينيا وأكواز الصنوبر المبتلة،
ومن كل الأنحاء، التلال المحيطة بالمدينة على وجه الخصوص، كان يمكن سماع صياح البرابرة
ومشاهدة نارهم في الليل، كما يمكن، عندما يخفّ المطر قليلاً، التنصّت على تنهّد إناثهم وتمييز وسوسة الأساور والخلاخيل، وتهدّل شعورهن السوداء، وتنفّس ذكورهم وهم يتجشّأون في أحلامهم.
كانت تمطر على البرابرة وعلى خيولهم ومخيّمهم الغريب على تلك الحافة، بعد الخاتمة بقليل،
حيث الزمن مفتوح دون رعاية على الهاوية.
خارج تقاويم الكهنة وإيماءات القضاة وأعياد الملك وعجائب الممثلين، وأدعية الأئمة وأمثلة الوعّاظ، ونصائح الغرقى وسؤال الموؤودة الوحيد.
وحين كلّ شيء، كلّ شيء تقريباً
متعلّق بمكر الآلهة ومشاغلها
وكيدِ بناتِها الضَّجِراتْ.

بحكم العادة

الجندي الذي نسيته الدورية في الحديقة،
الدورية التي نسيها «حرس الحدود» على الحاجز،
الحاجز الذي نسيه الاحتلال على العتبة،
الاحتلال الذي نسيه السياسيّ في حياتنا،
السياسيّ الذي كان جندياً في الاحتلال .
«الميركافا» التي نسيها الجيش في المدرسة،
الجيش الذي نسيته الحرب في المدينة،
الحرب التي نسيها الجنرال في الغرفة،
الجنرال الذي نسيه السلام في نومنا،
السلام الذي كان يقود «الميركافا»،
ما زالوا يطلقون النار على رؤوسنا
دون أوامر،
هكذا،
بحكم العادة.
* شاعر فلسطيني