لم يمت عبد الرحمن منيف بعد. قد تحمل الجملة بعضاً من النوستالجيا الساذجة، لكنها تعبر عن حقيقة فعلية أكثر من كونها مجرد محاولة لاستعادة نجم انطفأ، أو التماعة برق خبت. لم نغادر زمن حرب الخليج بعد رغم مرور قرابة ربع قرن. وفي زمن إعادة تعريف البديهيات هذا، كان لا بد من استعادة منيف. كما أن «لكل خائن.. حبيباً»، لا بد من أن يكون لكل زمن أجوف ومزيف... منيف. حسناً فعلت «دار التنوير» و«المؤسسة العربية للدراسات والنشر» في إعادة طباعة بعض أعمال عبد الرحمن منيف (1933ـــ2004)، لا سيما كتابه الذي لم يُقرأ كفايةً رغم تزامنه مع حرب الخليج «الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً». الكتاب ظاهرياً ليس أكثر من مقالات جمعت تحت عنوان عريض، لكن أهمية أعمال منيف (الروائية والفكرية على السواء) تكمن في ضرورة كسر السطح الخارجي، والغوص إلى الأعماق.

في ذلك الزمن، صدرت مئات الأعمال التي تحمل كلمة «الديمقراطية» عنواناً للتكيّف مع الرياح الأميركية وهرباً من أي «شبهة» تعاون أو التزام مع «الجمود الشيوعي». ويذهلنا اليوم الكم الهائل للسرديات التاريخية (الحزبية بشكل خاص) التي تمت إعادة كتابتها للتكيّف مع «ربيع الحرية». كان لا بد من إعادة قراءة حقيقية لتمييز التاريخ الفعلي عن المزيف، ولإعادة تكريس مهمّشي الأمس الحقيقيين كأبطال. ما الذي يجعل كتاب منيف مختلفاً؟ ما الذي يجعل ديمقراطيته مختلفة وحقيقية؟ للإجابة عن أي سؤال يتعلق بمنيف، ليس أمامنا سوى العودة إلى حياته هو بالذات. لن يكون من ترك حزب البعث في أوج قوته انتهازياً. لن يكون من ترك العمل في النفط، بعد وصوله إلى كرسي مدير إحدى أهم الشركات العاملة في هذا المجال في المشرق، نفعياً. لن يكون من تفرّغ للبضاعة الخاسرة (الكتابة)، في زمن البترودولار الأول، مزاوداً. بالتأكيد، لن يكون من عاش محروماً من الجنسية، لمواقفه الوطنية الصارمة، مزيفاً.
هذا ما يجب إدراكه قبل الشروع بقراءة منيف، وقراءة معظم النتاج الثقافي والإبداعي العربي الممتد من أواخر الستينيات إلى بداية التسعينيات، وهي المرحلة التي وضعت الخطوط العريضة لزمننا هذا. ليست ديمقراطية منيف لحاقاً بالركب الأميركي، أو هرباً من السفينة اليسارية قبل غرقها، كما فعلت الغالبية العظمى ممن كانوا «يساريين». كانت ديمقراطيته حقيقية لأنه من الكتّاب القلائل الذين لم يفرضوا دكتاتوريتهم على شخصياتهم الروائية، ولم يكتبوا ليصفّوا حسابهم مع أنظمة سقطت أو كادت. لم تكن الرواية (لا يمكن عملياً فصل الكتابة الروائية المنيفية عن كتاباته الأخرى) أداة لغاية، بل كانت هي الغاية بذاتها. كان يكتب الرواية لتكريس رواية عربية أصيلة لا تشبه غيرها، مدركاً بأن المجتمع الذي تكون كتابته أصيلة سيكون أصيلاً بالنتيجة، في زمن «التثاقف ما بعد-الحداثي».
تاريخ النفط في المنطقة هو المرآة الحقيقية لها

على عكس معظم الكتب القديمة، لن يكون مطلوباً من القارئ وضع «الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً» ضمن سياقه التاريخي، بل إن المطلوب فعلياً هو وضعه ضمن سياقنا الحالي، سياق الانتفاضات والحروب الأهلية. مواضيعه الفرعية هي ذاتها المواضيع الساخنة اليوم. يبدأ منيف أولى المقالات (ومعظم المقالات مكتوبة أساساً في الفترة الممتدة من منتصف الثمانينيات إلى عام 1990) بالحديث عن دور المثقف في الأزمنة الصعبة مؤكداً بداية عدم وجود مثقف محايد، «فالثقافة لا تكون محايدة»، مكرّساً تمييزاً مهماً بين المثقف الحقيقي و«مثقف الإعلام»، لو جاز التعبير، أي المهتم بالآني والعاجل، الذي يفكّر ضمن الأفكار الحالية، بحيث تتغير أفكاره مع تغير الأوضاع الراهنة، من دون أي مبادئ أخلاقية أولاً. وهنا، يؤكد منيف ضرورة استقلالية المثقف كي لا يزداد اندماجه في آلة الدولة (يمكننا استبدال الدولة بـ «الثورة»)، بحيث يكون الناطق باسمها والمتعامي عن أخطائها وخطاياها.
ينتقل منيف إلى توصيف لـ «المرحلة الراهنة» (أواخر الثمانينيات)، ليكتب أحد أهم المقاطع في الكتاب. يؤكد بأن «المرحلة القادمة، خاصة في المنطقة العربية، ستكون من أبرز سماتها «الثورات العمياء»، إذا صحت التسمية التي ستأخذ أشكالاً من الهياج والعنف والتحدي، وسيقودها في الغالب الجياع والمحرومون، وسيكون دور القوى السياسية فيها ضئيلاً، عدا القوى السلفية، إذ سيكون دورها التعبئة والتحريض، أكثر مما هو القيادة». أما الأسباب، فيُجْملها منيف تحت عنوانين أساسيين: الحركة الدينية، والثروة النفطية: «إن الحركة الدينية قوية وموجودة، كحركة سياسية، بقدر عجز وغياب القوى الوطنية التقدمية»، وهنا لا بد أن تلعب المعارضة الدور الأساسي، بخاصة مع تزاوج السلطة والحركة الدينية التي تدعمها، ولكن في أن تكون معارضة وطنية حقيقية، لا أن يكون الهامش بينها وبين الأنظمة «هامشاً غير وطني، وليس جذرياً، أو أنه غير قادر على تحريك الجماهير وقيادتها». كما أن غياب هذه القوى الوطنية يعني بالضرورة مواجهة للتيارات ما قبل-الوطنية، الطائفية والمذهبية والعرقية، التي يشير منيف إلى أنها ستملأ الساحة لتفعيل الدور الذي تمارسه إسرائيل من أجل خلق دويلات وكيانات دينية على شاكلتها، «فالرهان الحقيقي هو إما أن تتحول إسرائيل... أو أن تتحول المنطقة، خاصة الدول المحيطة بإسرائيل، إلى النموذج الإسرائيلي». أما «العقلانية» الداعية إلى الاعتدال والتسامح مع العدو وإنهاء النزاع، فهي «إما أنها لا تفهم حقيقة النزاع الحقيقي أم أنها متواطئة بشكل أو آخر لإحداث التغييرات المطلوبة في المنطقة العربية، وليس في إسرائيل».
أما العنوان الآخر، أي النفط العربي، فهو شديد الأهمية لأنّ تضخم الثروات النفطية، بخاصة بعد فورة الأسعار عام 1973، جعل دول الخليج (التي كانت ذات دور هامشي) هي المهيمنة على الساحة السياسية. لعب النفط دوراً خطيراً في إعادة تشكيل البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبلدان المنطقة، بحيث تتوافق مع الحدود التي ترسمها تلك الدول النفطية، بل يؤكد منيف أن «تاريخ النفط في هذه المنطقة من العالم هو المرآة الحقيقية لتاريخ المنطقة كلها، وما تعرضت له من استغلال وتقسيم واضطهاد».
تتشعب مواضيع «الديمقراطية أولاً... الديمقراطية دائماً» إلى درجة كبيرة، لكنها تعود لتتلاقى ضمن فكرة مركزية هي «الديمقراطية»، قولاً وممارسة، وهنا يعني منيف المبدئية أساساً للديمقراطية، لا الديمقراطية-الموضة. ومن ينظر إلى تاريخ منيف سيعرف جوهر المبدئية لمن لم يقبل التنازل رغم حرمانه من حقه الطبيعي في الجنسية، على عكس الأصوات، المنتشرة اليوم، الداعية إلى التخلي عن جنسيتها «لأن النظام هو من يمنحها» (!)، وبالطبع ... بعد حصولها على اللجوء وجنسية بديلة، أوروبية بالضرورة.