تقهقرت أرصفة الكرّادة (**) خائفة، تلمّست هذي الليلة خطوات المارّة بحذر، كأنها تتوسل منهم المغفرة. تفترشها البسطات مساء، حينها يسكنها الاضطراب وتتأجّج الحياة مجدداً في روحها، خليط من مفردات وجمل عابرة ومساومات على الأسعار. ثمة قلق تشعر به الأرصفة، قلق ينبت على صفحتها يمنعها من التثاؤب والنعاس، وأن تغلق جفنيها في قيلولة سريعة، لم تتقاض اطمئناناً حتى ليلة واحدة. تصرخ: أيها المارون.. أيها المارون، لا أحب الموت.. لا أطيقه، لكن لا أحد يصغي، الجميع ماضٍ في دربه غير آبه للنداء.تمنّت الأرصفة أن تنصت لكلام الناس، كلامهم المتخم بالوعود. تمنّت أن تلاصق شفاههم لتعرف ارتجافها وهي تدوّي بالكلمات، تمنّت أن تحيا في أحلامهم لتستعيد توازنها. ولكن هل في الأحلام حقاً.. أم ما نرغب به ونتمناه؟ حاراً وجافاً كان الطقس. السماء مساحة ممتدة من عتمة بنجوم بعيدة، الأرصفة محتدمة بالمتسوّقين والزائرين واللاهين. وحدها كانت تعلم حجم الكارثة التي ستهزّها، لكن من الذي سينصت للأرصفة، من الذي سيعرف مدى وجعها؟ تخشى أن يتركها الناس وحيدة، وأن تغيب عنها تلك القلوب النابضة بالحب. ترفض أن تقبل بنصيبها من كل هذا الهلع الذي سيزلزل الأرض تحتها، لم تستسلم بسهولة، ولن تخيفها الكوارث، ستبقى يقظة. أغمضت عيونها وفتحتها ثانية لترى المشهد الذي سيختفي وتحلّ بدلاً عنه صفحة من الوجع العميق سيبقى في بؤرة الصورة لسنوات طويلة.
على حواف تلك الأرصفة ستختفي الجنة. جنة الناس الصغيرة الخالية من الأنهار والثمار الشهية والأرواح الخالدة، وسيحلّ الجحيم بمخلوقات محترقة. لن ينفع الأرصفة إعلان البراءة. لن ينفعها التنصّل، فالذنب سيمتد من أقصى الروح إلى أقصاها. ستبقى مدى الدهر عاجزة عن فك لغز همجية الإنسان ووحشيته. همجية ملتبسة تنال من الهواء والشجر وجسد الآخر والكتب والطرقات والفكر والمرأة والتاريخ... والحاضر. لن تنفع الأرصفة إعلان البراءة، فالذنب كبير بحجم أقدارنا.

عمار سالم ـــ «مجزرة سبايكر» (زيت على قماش ــــ 2021).

عادت الأرصفة إلى ذاتها واحتضنت حزنها لتنتحب بصمت، فهي الوحيدة التي تعلم بالفاجعة التي ستصبغ بعد قليل الهواء باللون الأسود، تتحسّس رئتيها وتفرك عيونها الدامعة، وتهز رأسها ألماً بعد أن تفز الطيور الغافية في أعشاشها من هول كرات النار، تعلم بيقين أن الانهيار آت.
تجمع الأرصفة خليطاً من ناس على حافة الأمل والتدافع.‫.. وما بينهما‫.‬ المكان يغلي بالذاهبين والقادمين، لكنه متخم في الوقت ذاته بغواية سحيقة تعلن بوضوح لا غبار عليه‫:‬ لا حياة لمن يمر بعد ساعات قصيرة‫ على هذه الأرصفة أو بالقرب منها.
أقدار هذه الأرصفة مبعثرة، كأنها على سفر طويل، فهي تستشعر بقلب ملكوم وجع الغياب، أو تستشعر غياب المارة التي تعرف من آثار أقدامهم. تحاول التشبث بهم... تتوسل، ولكن من الذي ينصت للأرصفة... يا للخبل.
حين تحكي هذه الأرصفة قطوفاً من سيرتها ماذا ستقول، ستفشل تماماً في حيادها وانهيارات أزمنتها بعد أن يهتز يقين ختامها. ستصرخ بأنين مكتوم: لماذا يستمتع البشر بإيذاء الآخرين.. لم كل هذه العدوانية.. أين السر الكامن في شيوع هذا الرعب؟
تسرح الأرصفة في أفكارها وهي قريبة من الحدث بخطوتين أو أقل، تخشى أن تسألها الأرواح التي رحلت في لجّة الحدث: ما الذي تركته للأحياء؟ ستقول لهم بغصة: تركت للأحياء تلك الحياة المريرة على متّسعها. حياة أشد ضراوة من الموت، أو حياة تحيا من قلة الموت.
ترغب الأرصفة بعبور أخف للعابرين فوق جسدها، لئلا تفسد أحلامها. على مهل تسترد عافيتها مع كل ارتجاج تتعرض له قلوبها، تتملك روحها، تجمعها بوداعة مع نهاية كل نهار. تحول الخوف والضجيج إلى حكايات الأقدام التي تتركها خلفها وهي تسير صوب المجهول. تكرر المحاولة حتى يتصاعد من داخلها أنين يشبه الغناء، أو قريباً منه. أنين يحمل أوجاع الناس منذ عقود، حين طافت الدماء الشوارع بقرار رسمي رقم 13. لم ترقد الأرصفة مُذَّاكَ، لم ترتح، ظلت حائرة من دون أن تعرف ماذا سيحل بها، وبالبشر السائرين على جسدها.
أبدت الأرصفة خشيتها من أن يفيض بحرها بكائنات مضطربة. خافت من أن تستدير روحها صوب مجمع الليث. امتلأت بالضيق وشرعت في تلمس أحذية المارين بعدما تركت على جسدها خطواتهم المبعثرة. خطوط طويلة المدى مرة، ومتعرّجة قصيرة مرة أخرى. خطوات ترسم حماسهم أو فتورهم، حثّهم على الإسراع أو تمهّلهم. ترسم في ذهنها صوراً لوجوههم، شعرت بزهو غامض أبعد عنها قليلاً الضيق الذي يحاصرها منذ ساعات الصباح. دارت الدهشة التي غطتها، لكنها كانت على يقين أنها لو غسلت وجهها ألف مرة في اليوم، فإنّ مجرى الدم الممزوج بالسخام سيبقى عالقاً في ذاكرتها.
بكت الأرصفة بدموع ساخنة. بكت لأنها ستفتقد إيقاع المارين بأحذيتهم على جسدها. بكت لأنهم لا يعلمون شيئاً عن قلبها المتخم بالحب. لا يعلمون أنها تعرفهم وتلامس مشاعرهم من خلال إيقاع خطواتهم: المهموم، المريض، الرياضي، المعتد، الخائف، الزاحف ببطء، المتعجل، كما أنها تعلم إن كانوا فرادى تحاصرهم الوحدة أو مع أحبائهم. بكت لأنهم لا يعيرون أهمية لعلاقتهم بها، وغالباً ما يحيّرها السؤال: يسيرون على جسدي طوال حياتهم ولا يلتفتون إلي.. هل يعقل؟ كل ما يهمهم شكلي ونظافتي من دون الغور عميقاً في روحي. إذن من منهم يفهم روحي، أنا الهائمة بأرواحهم؟
من الحلم انطلقت الأرصفة صوب المرارة التي سيشهدها الحي بأكمله بعد سويعات. تدحرجت ألماً ورعباً وفتحت عيونها لتتحسّس ما تشعر به. تطلّعت بالسائرين، حاولت إيقاظ قوتها لترد الفجيعة، لكنها عجزت، فمن يبالي بأرصفة صمّاء وجرداء. ذرفت دموعاً بقدر ليلة طويلة، اغتسلت بدموعها وشمّرت عن أذرعها لتزيح الحنين العنيد عنها، ولكن من الذي سيهبها الراحة لتستعيد قوتها أمام العصف الذي سيأتي بعد قليل من وقت. تتأمل المكان بسكينة محبطة وألم يصعب وصفه. حاولت تخيّل المشهد الذي سيأتي، لكنها أبعدت الصورة عن ذهنها مفضّلة النسيان.. نسيان الموت والدمار.
كتمت الأرصفة أنفاسها وهي تتطلع إلى القلوب الظامئة الباحثة عن مساحة من حب بغرض الارتواء بما تبقّى لها من حياة، قلوب أنهكها جفاف العواطف. تمنّت أن تغيب عن الوعي، لكن هذه المرة سيكون الغياب طويلاً، لكن حين تعود إلى الوعي وتستعيد قواها ثانية يكون كل شيء قد تغير. وستصرخ بملأ صوتها: ما أضعفك أيتها الأرصفة. بعد استعادة الوعي لم يعد هناك ما تخشى عليه الأرصفة، فكل الأشياء ستغدو متشابهة في وعيها. أو في لا وعيها.
الجميع منشغل بهمومه، ونحن الأرصفة منشغلة بهموم المارة، نفرش لهم الطريق لنرتب لهم خطواتهم، ونصحّح أفكارنا عن أجسادهم التي تحمل كل خيبات الحياة، وعن الركام المتهدّم في أرواحهم. في تلك الليلة، الجميع منشغل بقدوم العيد بعد أيام معدودة. كم تمنينا قدومهم لنحتفي بهم. كنا ننتظرهم كل ليلة بأرق يشبه الحب، لكن هذه الليلة كنا نبحث عن سبب لمنع مجيئهم، هذه الليلة تحديداً. نصرخ بعنف يفوق الوصف: أيها المارون امكثوا في بيوتكم وأوصدوا أبوابكم، ثمة عاصفة من بكاء ستمر هنا، وتترك دوامة غبار من حزن ستمكث عميقاً، سينتقل الموت عبر الرياح، ستحجب الرؤية عنا وتمنعنا من التنفس، ذئاب صحراوية تعوي، تنتظر وليمتها، تحمل شرائع الدم منذ قرون. أيها المارون نتوسل إليكم امكثوا في بيوتكم هذه الليلة، فنحن من دونكم سنبقى بلا قلب. امكثوا في بيوتكم سيصعب علينا ترتيب صوركم وكلماتكم وأمنياتكم، امكثوا في بيوتكم خشية من انفلات القلب من الصدر، من صعوبة العثور على كلمات ملائمة للعزاء.
لم نتغير، هكذا تردّد الأرصفة، بلهفة كبيرة نستقبل كل يوم جديد المارة، نتحول في مثل هذه الليالي إلى نهر من بشر وخطوات، لم نتغير رغم تغير الوجوه والفصول والناس والأنظمة.. والأحلام.
ظلت الأرصفة تتساءل بإلحاح ممل: هل سننهض من وعكتنا بعد الفاجعة، كيف سنرى الفزع في عيون المارين وصراخهم والهلع الذي سيعمّر طويلاً في أفئدتهم، كيف سيكون صباحنا التالي، كيف سنلملم أرواحنا المتشظية؟ فكرت الأرصفة بهذه الأسئلة ملياً، رفضت أن تفكر في ألمها بقدر معرفة ألم الناس والغور عميقاً في جوهرها، بعد أن تمتلئ بدمهم وشظايا أجسادهم وفتات من أمانيهم.
طاردتها تلك الأسئلة، حاصرتها وهي ترسم صور المارين بعد حين أمام المبنى تاركين حسرتهم على أرصفته، سيلوكون الأسى حين يقابلون صور أحبتهم المعلقة على الجدار الملطّخ برماد المصيبة، سيجترون البلوى مرة بعد أخرى، هناك من سيتطلع إلى الجهة الأخرى المقابلة خشية من دمعة أو آهة أو حشرجة أو وجع في القلب.
تعلم الأرصفة أن ما ستشهده بعد سويعات يفوق مخيلتها، يفوق الصور الدامية التي حفظتها في السنوات القليلة في ثنايا ذاكرتها الهشّة.
يتصاعد عويل الأرصفة عالياً، تتذرع باكية وصارخة. صراخ عاجز تماماً عن لجم المصيبة التي سترقد طويلاً على جسدها، أجل إن قلبها من حجر لكن وجعها سيتشظى وسيهطل كدموع بلا توقف. ستحنّ، بعد سويعات فقط، هذه الأرصفة إلى أيامها الماضية، ستفتقد وداعة تلك الأيام برغم الريبة التي تشعر بها. تطلّعت نحو السماء، ثمة قمر كبير يشعّ على المكان، قمر أبيض مصفر يتوسط صفحة سماء معتمة. سكون مرعب يخيم على كل شيء، كأنه يستشعر الفجيعة التي ستدوّن حروفها الدامية على حواف الأرصفة أو كأنه يتنبأ بغياب القمر. رأت الأرصفة كابوساً مخيفاً أفزعها، أشجار الطريق تحمل على أغصانها رؤوساً بشرية مقطوعة، لا تزال رموشها تتحرك، تبدو على وجوهها نظرات حسرة كبيرة لم تطلق آهاتها الأخيرة.
يمضي الزمن بالأرصفة دونما نهاية وهي تعلن عن حدسها بالخوف الآتي. تمنّت أن يطول النهار، يطول كثيراً ولن يأتي الليل، تلك الليلة تحديداً، تمنيت أن تسكن عقارب الساعات، أن تتمسك بأرقامها ولا تتحرك البتة. تمنيت أن يُعاد زمن الوقت مجدداً مثل شريط سينمائي ويقف قبل الكارثة بدقائق.. يبقى جامداً هناك، حينها ستفرش جناحها وتحلق بعيداً عن الطرقات وصخبها.
نعلم تماماً، نحن الأرصفة، أن الذين يبقون على قيد الحياة يعانون أكثر ممن يغادرون. سيبقون يحملون أوجاعهم حتى لحظتهم الأخيرة. عمر بأكمله تلتهمه الحسرة والندم، تلتهمه ببطء شديد وبلذة تفوق الوصف. لدينا كل أسباب الحزن، تقول الأرصفة، كل أسباب الانتظار، كل أسباب العتب، لكننا نعلم قبل غيرنا أن الموت الآتي لا يمكن التغلب عليه بالدعاء أو بالقرابين أو بالندم أو حتى بالعزلة. نعلم تماماً نحن الأرصفة أن البشر سيغادروننا وسيعودون تالياً إلى نقطة البداية، سيمرون بنا وهم يغمضون عيونهم هرباً من الوجع.
نعترف بصدق كبير، نحن الأرصفة، من الشعور بالوحدة، أنها تطوّقنا بشدة وألم. غدت تلك الوحدة صديقتنا الأبدية، نلجأ إليها هرباً من الخوف الذي يحاصرنا. نركض إليها ونحضنها، فهي كل ما تبقّى لدينا في هذه الحياة العاصفة بكل الملمّات.. حتى أكثرها قسوة ووحشية. ورغم وحدتنا وخوفنا وتعبنا، سنركض حاملين بين أذرعنا حب الناس. بصراحة وشفافية نعترف أن فكرة عشق المارة طالما شغلتنا، عشق وقع أقدامهم، عشق ضحكات الأطفال وضجرهم‫.‬ نصحو مرات ليلاً ونفكر بهم، بأفراحهم وأتراحهم، بفقرهم وبحبوتهم، بتعبهم وزهوهم.‬
بعد أيام، ربما بعد سنة، ستفترش الشموع أجسادنا، بلهيبها المتموج، كأنها تشتعل في دمائنا وهي تذوب بتأوهات طويلة، ستلمس تلك الشموع قلوبنا، وسيكون ذلك اللهب الصغير سلوتنا الوحيدة. القمر الدائري الشاحب فوق الشموع يمنحها لونه، بينما تمنحه هي ارتعاشها. يتحرك القمر بتؤدة كأنه يختفي من المشهد، لم يطاوعه قلبه وهو يرى كل هذا الحزن.. حزن الذين نجوا، الذين فقدوا أحباءهم.. حزن عميق لا يفهمه إلا القمر البعيد، والشموع الملتاعة السائلة على أجسادنا في خطوط متعرجة.
هل سنتغير بعد سويعات، بعد الألم، هل سنغفو بعد ابتلاء هذه الليلة، هل سنرخي رؤوسنا على كتف الشارع، هل ستتعافى قلوبنا؟‫ ‬
نحن الأرصفة المنسية، بعد سويعات سيحيطنا الجميع بألم. بعد سويعات لم يعد يحبنا أحد، سيهربون منا، وسيلقون بنا جانباً، رغم أنَّا قد رأينا الذين عبروا على أجسادنا باتجاه المجمع، يقودون أطفالهم نحو الفاجعة. تطلعنا في عيونهم وبكينا بصمت ومرارة. بعد سويعات سننام عراة من دون وسائد، فمن يعيرنا غفوة عابرة؟

(*) فصل من رواية صدرت حديثاً عن «دار لندن للطباعة والنشر» بعنوان «شموع على أرصفة الكرادة»
(**) الكرادة، حي بغدادي شهد انفجاراً إرهابياً مروعاً في تموز (يوليو) عام 2016 استهدف مجمعاً تجارياً والأرصفة المحاذية له.