في واحد من السجالات المُعتادة بين نوّارة نجم، وأبيها الشاعر أحمد فؤاد نجم، طرحت عليه الابنة سؤالاً محفوفاً بالغضب والعتاب: «لماذا خلّفت بنات طالما لن تكون مسؤولاً عنهن؟». لم يرد «الفاجومي ». وبعد فترة قصيرة، هاتف ابنته يُخبرها أنّه كتب تتر بداية ونهاية لمُسلسل جديد بعنوان «حضرة المُتّهم أبي ». كانت الأغنيتان عبارة عن سِجال مُشابه لما حدث بين فؤاد نجم وابنته على امتداد علاقتهما.في كتاب «وانت السبب يابا»، تسرد نوّارة نجم هذه الحكاية، التي يُمكن وضعها كمتن قادر على جمع مضمون العلاقة مع شاعر العامية المصري أحمد فؤاد نجم (1929- 2013)، ليس بينه وبين بناته فقط، وإنما بينه وبين تجربة الحياة، حيثُ التهوّر الذي يُورث الخطأ، ثم الصمت، متبوعاً بالاستدراك المحفوف بأمانة الاعتراف والتصالح في الاشتباك مع الحياة بنديّة.


في مطلع كتابها، تُحدد نوّارة سبباً عملياً للاشتغال على كتابها، وهو أنّه لا يتعلّق بفؤاد نجم الذي نعرفه، كجمهور، لأن نجم ترك وراءه سيرة ذاتية منشورة وقصائد كثيرة، وأُغنيات، وتجربة نضالية شديدة الثراء، إضافةً إلى حوارات ولقاءات وحياة مشاعية يتناقلها الوسط الثقافي المصري من دون أي حذرٍ من انتهاك سريّة ما، لأنّ نجم ذاته كان يُجيد كشف نفسه بفضائحية كاشفة. ترك نجم وراءه ثلاث فتيات من زيجات مُختلفة. رحلت اثنتان وتبّقت نوّارة، ابنة الصحافية والناقدة صافيناز كاظم، أولى زوجات أحمد فؤاد نجم. رأت نوّارة أن ما يفقده نجم، ليس سيرة ذاتية، إنما شهادة جوّانية عن حياته، يحكيها شخص من قلب التجربة. ولذا ظهر هذا الكتاب، الذي تستحيل حكايته إلى مُساءلات حول الأبوّة والبنوّة، ونقد لها، وامتداد كوني لنتساءل حول تجربة المثقف الأب، الذي يُجيد عادة أن يكون رمزاً أبوياً للجميع، بينما يتعثّر عادةً بأبوّته الفعلية.
جرت العادة في نوع السير الذاتية المكتوبة بالعربية، أن تكون أشبه بمُحاولة تجميل التصوّر الذهني عن كاتبها، كأنّ كتابة السيرة، في الأدب العربي، هو ورقة الشفاعة التي يُمكن أن تُعيد إنتاج الأخطاء في صورة بطولية، أو تضع مُبررات لها. يدور كتاب «وانت السبب يابا» في فلك مُغاير، فهو لا يبحث عن محاولات تجميل، لأن صاحبه قد كشف نفسه في كُل مناسبة، مُتجاوزاً ضرورة التزام الشاعر أو الكاتب بتوديع الحياة، بالضرورة، تاركاً وراءه سيرة طيّبة ومُنمّقة. عملية بحث بسيطة على you tube عن أحمد فؤاد نجم، ستجده يتحدّث على الهواء، عن الحشيش والمُقويّات الجنسية. وفي فيديو آخر تسمعُ فلتات لسانه المُعتادة في أكثر من مرة. لذلك، فإنّ ابنته نوّارة أدركت أن مسيرة والدها لا ينفعها تجميل، ولا تحتاج لذلك بالمناسبة، لأنّها قامت أولاً وأخيراً على المُكاشفة.
ما كان ينقص حياة فؤاد نجم، هو شهادة من الداخل، وهذا تحديداً ما حاول الكتاب تقديمه: مُحاولة فهم آليات تكوين هذه الشخصية، مُلابسات تشكّل صفات مُفارقة لجيلها، بخاصة أنّ جيل الستينيات في مصر، حتى من شكّل الغضب والنضال الثقافي والسياسي مسيرتهم، شذّت فئة قليلة منه بهذه الدرجة تجاه التشرّد والانسلاخ من المُسمّيات الاجتماعية والتخفّف الكامل من كل مُتطلبات الحياة.
رغم أن فؤاد نجم، اعتمد في حياته على الكشف والوضوح، لم يشفع له ذلك في إدانته كأب، أو تتم مُساءلة دوره في علاقته ببناته وعائلته. تُركّز نوّارة في كتابها على استدعاءات من الذاكرة حول غرابة تعامُل والدها معها. تحتفظ بصورته الأولى في رأسها، وهي في السابعة من عُمرها حين زارته في السجن. ذهبت نوّارة مع والدتها، بعد طلاق الأخيرة من نجم، إلى العراق. وحين عادت، رأت الوالد، للمرة الأولى، كسجين، وربما تكون هذه هي الصُورة المُناسبة لانطباع أول عن فؤاد نجم. إذ اعتاد أن يُعتقل خلال فترة حُكم السادات في مصر، بسبب كتاباته الناقدة بحدّة لسياسة الحُكم، وللسادات شخصياً. انتقادات كانت تحظى بصدى واسع حين يُلحّنها ويُغنّيها صديقه الأقرب الشيخ إمام. خلال علاقتها مع والدها، لم تكن نوّارة تبحث عن الشاعر ذائع الصيت، وإنما عن صورته الأكثر أولية، صورة «الأب»، التي لم تحضر في علاقتها الحادة به إلا قليلاً. تُعيد نوّارة إنتاج كثير من الحكايات حول فؤاد نجم، وعلاقته بوالدتها بعد الطلاق، وكذلك علاقته بأصدقائه، مع أفكاره والتزامه الأخلاقي تجاه الفقر والتهميش وأهلهما. تنتج من كل هذه الحكايات تجربة ثرية، تقبلُ أن تحمل الشيء ونقيضه، إذ إن نجم، الذي كان يهرب من ابنته، لأيام، وربما لسنوات، هو ذاته الذي يفزعُ ويبكي مثل طفل، خائفاً، بسبب اعتقالها خلال نشاطها السياسي والصحافي.
لم تكن العشوائية الخلّاقة على مُستوى المُنتج الشعري، والظالمة لمضمون التزامات فؤاد نجم الاجتماعية، آتيةً من تلقاء نفسها، لأنّ نجم وُلد في حيّز عائلي يشملُ صراعات قُوى، فكان أبناء عمومته أثرياء، بينما هو ووالدته وعائلته الصغيرة أبراراً للفقر. لذلك، فإن نزع حميمية «البنوّة» في حياته، ونشوءه في ملجأ للأيتام، كانا مُشكّلاً للفزع الكبير من كونه أباً لاحقاً.

نوعية الحكي والأبُ الرمزي
إضافة إلى تتبّع تجربة أبيها من الداخل، بعين قريبة منه، تُطارده دائماً، ينطوي كتاب نوّارة على بعدين جديدين في كتابة السيرة ضمن الأدب العربي. أولاً، امتداد مزاج المُكاشفة والأمانة الحكائية خلال سرد تجربتها مع الوالد والعائلة، إذ يشملُ الكتاب إدانةً لتشدد صافيناز كاظم الديني، وإجبار نوّارة على بعض التعاليم الدينية، وفي السياق نفسه، يشملُ إيجابية كاظم إزاء تواصل الابنة مع والدها، وإن تمنّع الوالد عن ذلك أحياناً. لا تنفي مُحاولات العتاب الودودة من قِبل نوّارة تجاه والدها، اعترافها بأنّه كان يطوي بداخله تكوينات شخص جيّد، وأب حنون، والأهم، مُتحرر رغم قسوة نشأته وذكوريتها. ربما كانت هذه هي التشكيلة المثلى للكتاب: أن يكون تجربة تنتمي إلى العادي، لا تتوقف عند الإدانة، ولا تُجمّل عمداً الصورة الذهنية المُكوّنة لدى الناس حول أحمد فؤاد نجم، بل أن يمثّل تناول التجربة امتداداً لسيرته هو، مع الحفاظ على الاستقلال في آلية الحكي، لأن نوّارة خلقت لغة مُتداخلة بين الفصحى والعامية، تتضمّن طيف فؤاد نجم شديد البساطة، ولا تنفي أنّ هناك طرفاً آخر، تتمسك به نوّارة، باعتبار أن لديها ما يُضيف مزيداً من المُكاشفة والوضوح حول هذه التجربة.
البُعد الثاني يتمثلُ في إحالة صورة فؤاد نجم في الكتاب إلى نموذج، للهوّة الحاصلة بين الأبوّة الفعلية للمُثقف العربي، ووفرة أبوّته المجازية. لدينا آباء ثقافيون في الشعر والأدب والنضال السياسي، لكن ماذا عن أبوّتهم الفعلية، بخاصة حين تتوافر لدينا مادة سردية لتناول ذلك؟
خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، عايشَ مثقفو البُلدان العربية مرحلة فارقة في تاريخ المنطقة ككل، حين كان عبد الناصر، نموذج السُلطة في مصر، ليس فقط مُمثّلاً لمشروع تبنّاه عُموم المثقفين وآمنوا به، وإنما «أباً» للشعب. عقب الفشل الناصري، قُذف المشهد الثقافي المصري في قلب العراء. وظهر ذلك في مُنتج كثير من كُتّاب المرحلة، الذين مكثوا سنوات طويلة يُعيدون إنتاج مدى مرارة هذا الفشل من خلال مُنتجهم الفنّي. على مُستوى مُجتمعي، تم استبدال هذه النماذج في صورة آباء مُتعددين، ذوي رموز، لمصلحة المُجتمعات اللاحقة التي كانت تبحث عن معنى ومشروع سياسي وتجربة نضالية ثرية.
رُبما كان من حظ نوّارة الجيّد أن تشتبك مع تجربة أبوية ذات خصوصية، وتستبطن منها تجربة، وإن مريرة، لكنّها تظلّ فيها «ابنة» قادرة على إيجاد تعريفات شخصية لموقعها العائلي مع والدها. لكن هناك تجارب لم تُذكر، وربما لن تجد إمكانية الوساطة الأدبية والكتابية كي تُعبّر أن المجتمع الثقافي العربي، والمصري خاصة، شهد آباء رمزيين بالجُملة، بينما نُزع من أبنائه وبناته حق الأبوّة الفعلية.