منذ أن بثت إذاعة لندن في الأول من آب (أغسطس) عام 1990 خبر «انهيار المفاوضات الكويتية-العراقية في جدة»، بدا للتشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط (1930-2006) أنّ الفلسطيني محكوم بهذا القدر أينما رحل وأنّ النكبة بالنسبة لهذا الشعب ليست حدثاً واحداً انتهى زمنياً مع التطهير العرقي والتهجير القسري وإعلان دولة الاحتلال، بل هي أشبه بلعنة لا مفر منها. ابن مدينة اللد الذي أجبر على ترك بلدته لاجئاً إلى مخيم للنازحين في قطاع غزة، ثم بعد محطات عدة، ظنّ أنه استقر في بيروت حيث تزوج من الفنانة الفلسطينية تمام الأكحل، اضطر للهجرة مجدداً عام 1982 إلى الكويت، لكنه لم يسلم هناك أيضاً. بعد تسعة أعوام من العمل في الكويت، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ لم يكن أحد ليصدق أنّ بلداً عربياً سيغزو ويحتل بلداً عربياً شقيقاً، لكنه حصل حين قصفت القوات العراقية مبنى وزارة الإعلام ثم احتلته وأذاعت من محطة إذاعة وتلفزيون بغداد بيان إسقاط الحكم الكويتي والإطاحة بعائلة الصباح. حينها، قلق إسماعيل شموط على أبنائه بلال وبشار ويزيد، وسعى هو وتمام إلى ترحيلهم، مما وضعه أمام أسئلة وجودية: «متى نكون معاً؟» و«هل علينا أن ننشئ بيتاً سابعاً أو ثامناً جديداً؟». في كتاب «أيام الغزو: يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت»، الصادر أخيراً عن «منشورات تكوين»، يدوّن إسماعيل شموط مذكرات كتبها منذ بداية الغزو وهو في الكويت، أعطاها للكاتب الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل الذي كتب بناءً على التاريخ المدوّن رواية سبعانية (أي مكتوبة على سبعة أجزاء) بعنوان «إحداثيات زمن العزلة» (1996) حفظت في مكتبة الكونغرس كعمل روائي تسجيلي عن الغزو. تزيّن الكتاب لوحة «الطريق» التي رسمها شمّوط عام 1964، وتظهر الوجوه البادية في اللوحة حزناً واضطهاداً شديدين، وكانت قد عرضت في «متحف برلين الوطني» في سبعينيات القرن الماضي.


في الملاحظة الأولى، يمكن التنبه إلى أنّ الكتاب هو مادة خام، وتدوين لتطور الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية التي رافقت الغزو العراقي للكويت، موشّى بيوميات شموط. يمتد الكتاب على ثمانية فصول أعطاها عناوين الشهور التي حدث خلالها الغزو، بدءاً من آب «اللهّاب». تحضر في بداية الكتاب، مقدمةٌ للكاتب الكويتي المعروف، وصاحب رواية «ساق البامبو» الشهيرة سعود السنعوسي، عنونها: «إحدى وثلاثون سنة... هي رحلة هذه الأوراق، قبل أن تصير كتاباً بين يديك! ». يتناول السنعوسي رحلة هذا الكتاب أو الـ450 صفحة التي دونها شموط في مطلع تسعينيات القرن الماضي، حتى تحوّلت من مسودّة محفوظة في علبة كرتونية إلى كتاب بين يدي القارئ اليوم.
مع الفصل الأوّل، يشير شموط إلى أنَّ المشكلات السياسية التي اختلف بسببها البلدان (بئر الرميلة، النفط على الحدود الكويتية العراقية وجزيرة بوبيان التي طالب العراق بامتلاكها وغيرها) لم تعد اختلافات بين بلدين عربيين، بل تفاقمت الأزمة بوتيرة سريعة لم يتوقعها أحد. إنه كتابٌ تأريخي تسجيلي شخصيٌ في آنٍ معاً: «لم تُرِد تمام إزعاجي، وهي أكثر الناس معرفة بحالتي الصحية، فأفقتُ مبكراً نسبياً على صوت أناشيد وطنية مختلطة، مع مناقشات غير مألوفة في البيت صباحاً. ففي اليوم الثاني للاجتياح، أعلنَت وسائل الإعلام العراقية تشكيل حكومة مؤقتة للكويت سميت «حكومة الكويت الحرة المؤقتة» من دون ذكر أسماء أعضائها لتبرر أن قدوم القوات العراقية لاحتلال الكويت كان تلبية لنداء أهل الكويت الذين قاموا بثورة شعبية، ونجدة لانتفاضة فِتية آمنوا بربهم في الكويت». هنا حدث ما لم يكن يعتبره الكاتب ممكناً، فقد أقفل مطار الكويت وانقطعت خطوط الهاتف مع الخارج ثم بين المناطق في الداخل. وسرعان ما أعلنَت هذه الحكومة التي ضمت «أسماء غير معروفة في الكويت وربما غير كويتية»، عن تغيير اسم الكويت من دولة الكويت إلى جمهورية الكويت، وأصدرت قراراً بضمها إلى الجمهورية العراقية. ساعتها دعا الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الذي ندد بالعدوان وطالب بضرورة التراجع عنه، إلى عقد اجتماع للقمة العربية. عند التصويت على القرار، انقسمَت الدول العربية بين مندد ومؤيد ومتحفظ فيما غابَت تونس عن القمة. هنا، يأتي سؤال الرسام الفلسطيني: «كيف سقطت الكويت وبهذه السرعة المذهلة؟». في الوقت عينه يشير: «بعد يومٍ أو اثنين وبعد أن صحا الناس من هول ما حدث، تنادى الشباب الكويتي، فراحوا يفتشون عن سبل للتعبير عن مقاومتهم للاحتلال العراقي بالوسائل المدنية أو العسكرية كاستعمال السلاح ضد الجنود والآليات العسكرية العراقية. ولم يكن يمضي يوم بعد يوم الاحتلال، من دون أن تضرب وتحرق آلية عسكرية عراقية أو تفجر بمن فيها».
يقوم الكاتب في الفصلين الثاني والثالث بتصوير الحياة اليومية في الكويت إبان ذلك الاحتلال: لقد بدأ الجنود العراقيون بالتواجد عند مداخل الشوارع الفرعية وأقاموا حواجز في الشوارع الكبيرة، وأعلنت السلطات العراقية عن ضرورة تسيير الحياة بالقوة في «المحافظة التاسعة عشرة للعراق، محافظة الكاظمية أي الكويت، في حين كان البلد مضرباً والأسواق مقفلة مقاومة للاحتلال». جاء أثر الاحتلال العراقي للكويت شديداً على الشعب، وبدا أن المواقف السياسية المختلفة انعكست على الناس في حياتهم اليومية في الكويت المحتلّة خصوصاً موقف «منظمة التحرير الفلسطينية»: «صحيح أن الموقف الفلسطيني كان مائعاً في هذه القضية، وقد أسهمَت وسائل الإعلام العربية والغربية في تكبير الصورة المشوّهة للفلسطيني، وأنه مؤيد للإرهاب لأنَّ الذي يقف مع الإرهابي والدكتاتور صدام حسين هو ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية». هذا الموقف الملتبس و«المتورط في المنتصف» –كما يشير الكتاب- انعكس على الوجود الفلسطيني في الكويت، فمساء أحد أيام أيلول (سبتمبر) دقّ الجرس، وإذ بشاب كويتي يسأل إن كان سكان المنزل كويتيين حتى يوزع عليهم مؤونة. وحين علم أنهم فلسطينيون اعتذر ولم يعطهم شيئاً. ورفضت بعض المحلات «بيع منتجاتها للفلسطينيين»، حتى إن «سيدة كويتية دفعت زوجته تمام الأكحل قائلة: أنتم لا تزالون هنا، ارحلوا عنا».
يجول صاحب لوحتَي «العطش» و«المعشوقة» بين الأخبار اليومية والآنية بدءاً من مقابلة لحسني مبارك أشار فيها إلى «أنّ جميع الفلسطينيين لا يؤيدون صدام ولا يقفون معه في غزوه للكويت، إنهم في موقف صعب. إنّ مقر منظمة التحرير الفلسطينية موجود في بغداد، وليس بوسع عرفات أن يعلن بأنّ العراق على خطأ، فإذا قال بأن غزو العراق للكويت أمر غير مشروع، سوف يواجه كثيراً من المشكلات وأنا أعذره وأشفق عليه».
في الفصل الرابع، وهو «تشرين الثاني/نوفمبر» عام 1990، بدأ الضغط الدولي على الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين حيث هدد جورج بوش الرئيس الأميركي بالتحرّك العسكري، فكان جواب العراق بأنّ «المنطقة ستشتعل وسيحترق الأخضر واليابس... وأن آبار النفط وإسرائيل ودول الخليج ستكون أهدافاً للعراق». هنا، وفي الكويت، انعدم الأمن وأصبح الكل ينتظر حلاً: «وإن كانت الحرب مقررة فلتحدث لأن الكويت لم يتبقَ منها الكثير». مع الفصل الخامس وشهر كانون الأول (ديسمبر)، سرعان ما أضحت القضية مرتبطة جذرياً بالموقف الأميركي مما يحدث. قال وزير الخارجية جيمس بيكر حينها: «لقد خوّل مجلس الأمن الدولي كافة الأعضاء استخدام القوة ضد العراق إذا لم ينسحب من الكويت قبل 15 يناير 1991. إنّ الانتظار [...] سيسمح لصدام حسين المواصلة في تشويه والقضاء على الكويت، وبناء ترسانة من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والعمل على تطوير قدرته في صنع أسلحة ذرية».
تدوين لتطور الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية

في الوقت نفسه، كانت صور صدام حسين منتشره في جداريات الشوارع مرة باللباس المعاصر ومرة باللباس العربي ومرة باللباس الكردي وأخرى باللباس العسكري، ولم تمر ساعة على الإذاعة أو التلفزيون من دون أن يُذكر اسمه. وعند الفصل السادس أي في كانون الثاني (يناير)، أيقن شمّوط والأكحل أنّ عليهما تحضير الملجأ: ماء وأغطية؛ وأنزلا اللوحات عن الجدران لحمايتها وتفقدا الدار والمزروعات. أعاد ذلك ذكريات اجتياح بيروت 1982: «الاتصالات فيما بين الأقارب والأصدقاء، وما يجري خلالها من أحاديث؛ كلها ذات علاقة بالحرب المحتمل وقوعها في أي لحظة. يسألوننا ماذا نفعل، على اعتبار أننا أصحاب خبرة سابقة في هذا المضمار. بيروت 1982 وما قبلها من أحداثٍ رهيبة مرت علينا أو على أحدٍ منا». واندلعت الحرب. أعلن الراديو العراقي أنّ «العدوان قد بدأ وأن طائرات العدو ضربت أحياء سكنية مدنية واستشهد 23 مدنياً و60 جريحاً». في هذا الوقت كانت محطة «سي أن أن» الأميركية تبث أخباراً مصوّرة عما يجري في المنطقة، من بينها أسرُ جنودٍ عراقيين. ردّ العراق يومها بقصف تل أبيب بعددٍ من صواريخ السكود السوفياتية التي كان يمتلكها، فأحدث «تدميراً في حيفا وتل أبيب»؛ وخلّفت المعركة «بحيرة نفطٍ عائمة في بحر الخليج تتجه نحو الشواطئ السعودية والعمانية».
في الفصل السابع، يظهر لنا الكاتب معالم المرحلة آنذاك: «استيقظنا باكراً على طرق باب غرفتنا من الشقيق جمال وزوجته لميس وهما يخبراننا بأن القرار اتخذ وأن المعركة البرية قد بدأت. قلنا: اللهم اجعله بداية لأيام خيّرة».
اللافت في هذه المذكرات أن إسماعيل شمّوط الذي قال عنه الشاعر الراحل محمود درويش «يده ترى وقلبه يرسم» لم يرسم أي لوحة إبان هذه الأحداث، بل فضّل التدوين. صحيح أنه أشار لإسماعيل فهد إسماعيل «أنه عاجزٌ عن الرسم»، ولكن هل كان ذلك كافياً لئلا يرسم طوال تلك الشهور الثمانية؟ لا إجابات شافية بالتأكيد، خصوصاً أنه منذ صغره أي تقريباً منذ عام 1952 رسم لوحاتٍ واقعية للنكبة وأحداثها ومفاعيلها. في الختام، يبقى «أيام الغزو: يوميات إسماعيل شموط أثناء احتلال الكويت» مادةً خاماً لأي عملٍ يرصد تطور الأحداث في تلك الشهور العجاف.