تعتبر القصة القصيرة جداً من أكثر الأجناس الأدبية حيويةً وانتشاراً في الوقت الراهن. يرجع ذلك إلى أسباب عدة يلخّصها المهتمون في قدرته على التعبير عن أفكار الكاتب في فقرات معدودة أو سطور قليلة. وفي هذا الأمر تشبه القصة القصيرة جداً الشذرة الأدبية، وإن كانت الحبكة شرطاً من أهم شروطها، بالإضافة إلى التكثيف والقدرة على التعبير بشكل موجز. لا يختلف المشهد الأدبي في البرتغال عما تشهده باقي الآداب الغربية من حضور قوي لجنس القصة القصيرة جداً، خصوصاً بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت عملية النشر لكثير من الكتاب الجدد، على الأقل في بداية المشوار، وشجّعت على اعتماد التكثيف والإيجاز اللذين يمثلان شرطين من شروط النشر في بعض المنصات الإلكترونية الحديثة. لا أحد يستطيع أن يحدّد بالضبط متى بدأت القصة القصيرة جداً في البرتغال، وهو الأمر نفسه الذي نلاحظه في آفاق أدبية أخرى. لكن الأكيد أنّ مَن كتبوها في البداية، لم يفعلوا ذلك انطلاقاً من وعي كامل بهذا الجنس السردي وخاصياته. لذلك، كتاب «الفراشةُ والمرآة: أنطولوجيا القصة القصيرة جداً في البرتغال» (اختارها وترجمها عن البرتغالية سعيد بنعبد الواحد ــــــ دار خطوط وظلال) يضمّ نصوصاً تغطي ما يناهز مدة قرن من التاريخ الأدبي البرتغالي الحديث. ترجع النصوص الأولى إلى بداية القرن العشرين، بينما تعود أحدثها إلى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. ومع اختلاف الظروف والخلفيات الفكرية للكتّاب الذي يظهرون في هذه الأنطولوجيا، تختلف النصوص أسلوباً وموضوعاً. نلاحظ أنّ هناك كتّاباً من ذوي النزعة الكلاسيكية أمثال فرناندو بيسوا (1888 ــــ 1935) وماريو دي كارفاليو (1944) اللذين يستعملان أسلوب الحكاية الخرافية على طريقة الكاتب اليوناني إيسوب. وتغلب على هذين الكاتبيْن مواضيع السياسة والأخلاق، بالمعنى الأنطولوجي للكلمة. أما الكتّاب الجدد، فيلجؤون إلى تقنيات التهكّم والمحاكاة الساخرة للنصوص الكبرى، سعياً إلى خلق حوار يحرك وجدان القارئ ويدفع إلى استحضار ما تكدّس في ذاكرته أو لا وعيه من نصوص وأقوال. مع ظهور أساليب التعبير الجديدة في وسائل التواصل الاجتماعي من بريد إلكتروني ومنصات تواصل حديثة، استعمل الكتّاب الشباب تقنيات من هذا المجال ونقلوها بذكاء إلى اللغة الأدبية، ما منحها حياةً جديدةً وزوّدها بمواضيع تناسب هذه التقنيات: تواصل افتراضي، عزلة، انطواء، تصرفات غريبة وشاذة... تضم هذه الأنطولوجيا 30 كاتبة وكاتباً من أهم الأدباء البرتغاليين الذي اشتغلوا على جنس القصة القصيرة جداً وأبدعوا فيه عن وعي أو من دونه، وهي بذلك تقدم نظرة شاملة على مختلف أساليب كتابتها في البرتغال. كما تُظهر ذلك التحول الذي طرأ عليها بفعل تأثير وسائل التواصل الاجتماعي وما طرحته من مواضيع قديمة وجديدة في الآن نفسه. نقدّم هنا مقتطفات من كتاب «الفراشةُ والمرآة: أنطولوجيا القصة القصيرة جداً في البرتغال»
فرناندو بيسوا: سرُّ روما
عندما وصل القيصرُ متأخراً إلى ساحة المعركة، رفعوا بسرعة أمام عينيه رأس بومْبيو. أجهش القيصر بالبكاء، فاندهش الحاضرون. من كان يحمل الرأس، أنْزلَها بعض الشيء؛ كان مذهولاً، والرأس ثقيلة لأنه يرفعها بطرف ذراعه.
ـ طيب، هل يستحق هذا الأمر نصراً؟ سأل القيصر.
ـ هذا صحيح ـ قال من يتبعه، لأنه لم يجد ما يقول.
ثم أردف القيصر
- كان صديقي، ورفيقي. كان رومانياً، وجندياً...
ثم قال: «وصلتُ متأخراً...»
أومأ مرافقُه بحركة جوفاء، فأدار القيصر ظهره المقوّس ألماً.
«وصلتُ متأخراً ...»، ردّد. «كنتُ أود أن أقتله بيديّ هاتين»
مغزى الحكاية: احذروا الدموع، عندما تسيل من عيون رجال السياسة.

غيلدا موتون ـــ «قائمة اليوم: فيديو تيك توك، صور انستاغرام، تويت، لايك فايسبوك، تحديث تامبلر» (زيت على كانفاس ـــ 40 × 30 × 3 سنتم ـ 2022)




فرناندو بيسوا: الحمارُ والضّفتان
جرت العادة أن تُحكى للأطفال، عندما يبلغون سناً يصبحون فيها بلهاء، حكايةُ حمارٍ يصلُ إلى ضفة أحد الأنهار لكنه لا يستطيع العبور إلى الضفة الأخرى.
النهر بدون قنطرة، والحمارُ لا يعرف السباحة، وما من زورق كي يحمله. فماذا يفعل الحمار؟ بعد طول تفكير، يقول الطفل إن الحمار سيتخلى عن قصده. عندئذ، يقول الشخص الراشد، الذي وضع اللغز: هذا ما فعله الحمار. لكن كان أولى به أن يقول: إنك مثل الحمار، لأنه بهذا الشكل تكون النادرة ظريفة، إن كانت فعلاً كذلك.
لكن القصة لم تكن بهذا الشكل، لأن الحمار نفسه هو من حكاها لي. وصل الحمارُ إلى ضفة النهر، وكان يريد العبور إلى الضفة الأخرى. وبالفعل ـ وبهذا الخصوص، فإنّ الحكاية حقيقية كما تُروى ـ تأكد الحمار من أنّ
أ) ليس ثمة قنطرة
ب) ليس ثمة زورق
ج) هو، أي الحمار، لم يكن يعرف السباحة.
حينئذ فكّر الحمار: ما عساه يفعل إنسان لو كان في مكاني؟ وبعد طول تفكير، خمّن: سيتخلى عن قصده. طيب، قال: إنني مثل الإنسان.
لأنه في هذا اللغز، لم يفكر أحد في شيء واحد: الإنسان بدوره يتخلى عن قصده.
مغزى الحكاية: السياسية الحزبية هي فن قول الشيء نفسه بطرق مختلفة. لذا، من الأحسن أن يدلي المرء بقوله بعد الآخرين، لأنه ما دام الإنسان هو من يقول اللغز، فإن الحمار يتفوّق عليه.

ماريو إنْريكي ليرِيّا: وصوليّة
بعدما اختلسَ المُربّى ثلاث مرات من بيت الأطعمة، حذَّرَهُ أبوه.
بعدما سطا على صندوق السيد إشطيفيش، صاحب البقالة في زاوية الزقاق، طردَهُ أبوه من البيت.
عاد بعد اثنتين وعشرين سنة رفقة سائق يرتدي بدلة رسمية.
أصبح مديراً عاماً للأمن. أصيب والده بسداد قلبي.
■ ■ ■
ماريو إنْريكي ليرِيّا: مفاجآت الصيد
لم أصطد شيئاً.
كنت أتأهب لأعود إلى البيت، لكني قرّرتُ أن أرمي الصنّارة للمرة الأخيرة.
شعرتُ بجذب قوي. مسكتُ بقوة وبدأت أطوي الخيط بحذر وتؤدة. وإذا بي أرى نازياً يأتي مع الصنارة! نعم، نازي حقيقي، من كبار النازيين! كانت دهشتي كبيرة، لأنهم أخبروني أنه لم يعد لهم وجود. حاولت أن أسحبه مستعيناً بالشباك وذهبت للتو لأتأكد من الأمر. كان نازياً، بالفعل. هل تتصورون؟ جنرال وعضو في المخابرات السرية النازية. بقلنسوته، وميدالياته، وصليبه المعقوف، وما إلى ذلك. كيف يمكن للمرء أن يصدق ما يقال له! وضعته طرياً في علبة صفيحيّة، وبعثت به إلى معامل السمك الوطنية. هنالك، قد يعرفون ما يصنعون به. أما أنا، صراحة، فلا ينفعني في شيء.

مانْويل أليغري: التشكيلة
لا أعرفُ بالضبط أيّ حرب أخوضُها. كل يوم في مثل هذه الساعة، السادسة مساء، يبدأ جنود لا أراهم بمحاصرتي. أشعر أنهم بالقرب مني، أعرف أنهم يحيطون بي، لكني لا أرى أحداً منهم. لا شيء سوى طلقات نارية، طلقات متواترة وطلقات رُوكيت. من حين إلى آخر، يصيحون في مكبر الصوت ويأمرونني أن أستسلم.
ـ إنك لوحدك ـ يقولون ـ إنك جندي وحيد في حرب خسرتها منذ زمان.
المشكلة أنني لا أعرف حتى أي حرب هي. لا أعرف من ألْبَسني هذه البدلة العسكرية، ولا من بعث بي إلى هنا ووضع سلاحاً في يدي. لا ينقصني العتاد الحربي، ولا حصص الطعام، ولا الماء. يزودونني بالمؤن كل يوم. لكنني لا أعرف من يقوم بذلك. لا أعرف أيضاً من هم معي ولا البلد أو القضية التي أحارب من أجلها، إذا كنت فعلاً أحارب من أجل شيء ما. أدافع عن هذا المحرز. إنها تشكيلتي العسكرية. ربما لا معنى أن أكون هنا للدفاع عنها، لكني لو فقدتها سأفقد نفسي أيضاً. المعنى الوحيد، الذي ربما لن يكون له معنى ذا قيمة، هو أن أدافع عن هذه التشكيلة. حتى آخر نقطة دم، كما قالوا لنا، منذ مدة، في التعاليم الموجهة للمجندين الجدد. لهذا لا أستسلم. مهما أنذروني وأرهبوني، سأستمر في المقاومة. ليس لأسباب عسكرية أو أخلاقية محضة. لنقل لأسباب جمالية. الرجل لا يستسلم. ربما لذلك أنا هنا، لا أعرف بالضبط أين ولا منذ متى، ربما منذ الأزل، وسط التشكيلة، محاصر ووحيد، لكنني لست بالمنهزم.
في مكان ما، هناك من يزوّدني. في مكان ما، هناك من يعرف أنني لا أستسلم.
كل يوم، عند الساعة السادسة مساء، يشتد الحصار. كل يوم، في الساعة نفسها، أتخذ لنفسي موضعاً. أستغرب كيف أنهم لا يصيبونني، والحقيقة أنني لا أعرف إن كنت قد أصبت مرة العدو، إنْ كنتُ أستطيع أن أسميه كذلك. يصل بي الأمر أن أتساءل إن لم يكن هذا حلماً، إن لم يكن كل شيء مجرد كابوس وأنني سأستيقظ فجأة.
مهما يكن، فالحرب مستمرة. في الحلم أو خارج الحلم، إنها مستمرة. إنها الساعة السادسة تقريباً وأشعر أنهم يقتربون. كل يوم على هذه الحال، كل يوم أدافع عن تشكيلتي.
ـ إنك رجل وحيد ولقد خسرت الحرب ـ يصيحون.
أعرف جيداً أنني وحيد. لكن، ما دمتُ أقاتل فإنني لم أخسر الحرب، وإن سألني أحد أي حرب هي، فلن أعرف كيف أجيبه بالضبط. قد أقول إنها حرب رجل وسط تشكيلته. رجل يحارب، ربما في الحلم، لأن كل شيء، ربما، حلم. حُلمُ حُلمٍ، أذكر أنني قرأت هذا في مكان ما. ماذا يهم؟ حلماً كان أم لا، إنهم هنا، عليّ أن أدافع عن تشكيلتي؛ لا وجود لمعنى آخر غير هذا، أن أحارب حتى النهاية، الرجل لا يستسلم، ليس شيئاً جميلاً أن يستسلم، سيكون ذلك، إذا سمحتم، من قلة الأدب، سيكون قلة أدب كبيرة.

ماريو دي كارْفايو: قصة
سافر رجلٌ يملك أربع أياد من أرض إلى أرض أخرى بحثاً عن بلده.
وجد هنا وهنالك أناساً بأربع أياد، بعضهم يُعرضون في السيرك والأسواق، وبعضهم يقومون بأشغال شاقة في الأبراج العالية، في خدمة أناس بيديْن.
ذات يوم جميل، وصل، أخيراً، إلى بلاد قوم بأربع أياد.
لكن، هناك، كان الناس يشدون يدين إلى جسمهم، تحت القمصان والملابس، ولا يستعملون إلا اليدين الأخريين.
فوق الحدائق المغطاة بالعشب، كُتب بأحرف بارزة: «يمنع قطعاً أن يكون للمرء أربع أياد»

غونسالو م. طافاريش: النظريّةُ
قال السيد هانري: اختُرعَ الهاتفُ ليتمكن الناس من الحديث فيما بينهم مبتعدين عن بعضهم البعض.
... اختُرع الهاتفُ ليُبعد الناس عن بعضهم البعض.
... تماماً مثل الطائرة.
... اختُرعت الطائرةُ ليعيش الناس بعيداً عن بعضهم البعض.
... لو لم تكن هناك هواتف ولا طائرات، لكان الناس يعيشون معاً جنباً إلى جنب.
... هذه مجرد نظرية. لكن، فكروا في النظرية.
... ما يهم هو التفكير حين لا ينتظر أحد ذلك.
... هكذا نفاجئكم.

غونسالو م. طافاريش: تدشينات
كان الزعيم متوتراً. يذهب من جهة إلى أخرى.
ـ لا شيء يُدشَّن، لا شيء! هؤلاء الرجال لم يصنعوا ولو كرسياً واحداً. لا شيء جاهزاً للتدشين.
ـ ولو إبرة واحدة، أيها الزعيم.
ـ ولو إبرة واحدة يمكن تدشينها ـ همهم المستشار الثاني.
ـ ولو إبرة واحدة.
ـ ولو إبرة من هذا الحجم ـ ألحَّ المستشار الأول، وهو يجمع، في حركة معبرة، الإبهام والسبابة ـ ولو إبرة من هذا الحجم! من هذا الحجم!
ـ لا شيء!
كان المستشاران كأنهما قد انبهرا بذلك الخطاب الطويل والممل.
ـ لم يصنعوا ولو ثقب إبرة واحد!
ـ لا شيء. ولو ثقب إبرة واحد!
ـ ولو نصف ثقب إبرة واحد.
ـ لا شيء، لا شيء!
ـ كفى! ـ صاح الزعيم. ـ لا أطيق سماعكما!
ـ نحن سنصمت، أيها الزعيم.
ـ خطرت ببالي فكرة ـ صاح فجأة المستشار الأول.
ـ ممتاز!
ـ فكرتي هي كالتالي: هل سبق للسيد الزعيم أن زار مرة هذه الأرض القبيحة، الباردة، الجرداء، بل المقرفة، بشكل ما، رغم أنها تعد بالكثير.
ـ أنا؟ طبعاً لا. هل جننت؟!
ـ إذا ها قد وجدنا الحل!
ـ أي حل؟!
ـ يمكن أن ندشن قدومكم إلى هذه الأرض. إنها المرة الأولى التي يحل فيها الزعيم بهذا الفضاء. أليس هذا أمراً رائعاً؟
ـ ها قد بدأت تعجبني الفكرة. إن لها معنى.
ـ لن يُنجز شيء أهم من هذا في هذه الأرض.
ـ لا تبالغ كثيراً ـ همس الزعيم، بينما هو يكاد يختنق من الفرح الذي يعلو ذقنه.
ـ ربما، يجب أن يدشن أحدنا حضور سعادتكم بهذه الأرض، أيها الزعيم. ما رأيكم؟
ـ أنا بنفسي سأدشن حضوري بهذه الأرض!!
ـ هذا ليس بالأمر الهين ـ قال المستشاران بصوت واحد ـ أن يقوم المرء بالتدشين ويكون هو الشيء المُدَشَّنَ في نفس الوقت ...
حينئذ، وهو يرفع بحزم ذقنه نحو السماء، ردّ الزعيمُ بشكل قاطع:
ـ أنا رجل يحب مواجهة المصاعب.
وكذلك كان.

ألشاندري أويونغ أوليفييْرا: ولادة
الجُثّة ذكرٌ، سواء بالمعنى اللغوي أو غير اللغوي للكلمة، وحسب مؤشرات الفحص التي تم جمعها في القاعة، ربما انتهت للتو من ممارسة الجنس لحظات قبل أن تحدث الوفاة.
فعلاً، المكان عبارة عن ماخور، والجثة من الجنس الذكوري، الآن بالمعنى المحض وغير اللغوي للكلمة، كان في سنّ الاستمتاع بالمضاجعة، ما يجعل من المنطقي أن نستنتج، على الأقل في هذه اللحظة الخاصة بمعاينة المؤشرات، وأمام مكان تواجد الجسد وموقعه في هذا الظرف، أنه كان له عضو تناسلي قبل أن يحصل، نظراً إلى سخاء الموت، على وضعية ذكورية بامتياز، هي من حق الجميع بشكل متساوٍ، في تلك اللحظة الدقيقة التي يتحول فيها الجسم الحيوي إلى حالة من الجمود.
صاحبة الماخور حاولت أن تنفي أنّ الجثة ربما مارست الجنس قبل قليل مع واحدة أو مع عدة فتيات تحت إمرتها، متحجّجةً، بأسلوب لا يخلو من قوة إقناع ومبينة عن معرفة تطبيقية وتجريبية للبلاغة، تليق بقدماء السفسطائيين، بل وحتى بكاريليو، أن ذلك مستحيل، ما دام أنّ الجثث ليس لها عضو تناسلي أنثوي، كما نعرف جميعاً.
ومع ذلك، فقد صرحت المخاطَبَة، التي كانت معروفة وقتها بأنها من أتباع أريندت، أن العضو التناسلي يتَفعّل بلا نهاية، محدثاً باستمرار عضواً تناسلياً جديداً، لتتركنا جميعاً مندهشين.

ألشاندري أويونغ أوليفييْرا: انتحار

1.

زوجات، أمهات، أخوات، عشيقات أو مومسات.
ألا توجد سوى أنثى واحدة في الجسد، تتضاعف داخله؟ طبعاً، لا. إنهن كثيرات ويتضاعفن داخل الجسم وخارجه، معلقات بطيات الحبل الموتور، وهن يرتدين تلك الملابس البالية التي صنعها مشاهير الخياطين.
تعود بداية هذه المحاضر إلى وشاية مجهولة: تردد صوت نسائي في التلكس، برموز أجنبية. وسُمع في بناية فريق الشرطة: تيك~تيك تيك~تاك. تيك~تيك تيك~تاك. تيك~تيك~تاك. تيك~تاك.
بعد أن فك رموز الرسالة، قرأ رئيس المصلحة ما يلي: «حُبي كبير، يهيمن على الأماكن السوداء في المدينة، أنا الحب – القضية، أتضاعف في القبو الذي ترقد فيه الجثة، زنقة مادالينا، رقم 133».
أرسلت فصيلةٌ من الجنود إلى عين المكان.
وعُثرَ على الجثة في حدود منتصف الليل في القبو. كانت جثة أحد الزبائن.
وكُلف رسمياً الشرطي الذي عثرَ على الجثة بإنجاز تحقيق مصور، رغم أنه لا يتوفر على تلك الصلاحية. أخذ صوراً للجثة كما وجدها، معلقة في الهواء من الرجلين، ترتدي لباساً جميلاً من نوع مِياكي. وقَّعَ المحضر باسمه، وهو ما تسبب خلال تطور الملف في عراقيل شكلية كبيرة، نظراً إلى عدم أهليته للقيام بتلك المهمة والمهارة العالية للمحامين الذين تعاقدت معهم المشتبه بها، من أصل تركي.

2.

أزواج، آباء، إخوة، عشاق أو قوّادون.
ألا يوجد سوى ذكر واحد في الجسد، يتضاعف داخله؟ طبعاً، لا. إنهم كثر ويتضاعفون داخل الجسم وخارجه، يمسكون بحبل جد موتور، وهم عراة بالكامل.
كان افتتاح المعرض يمر بشكل عادي، بحضور الوكيلة «ي»، التي ترتدي لباساً أصفر أنيقاً من تصميم «غوتيي»، من تشكيلة أزيائه الصيفية، وتنظر إلى كاميرات المراقبة. الفنانة الضريرة، صاحبة الأعمال المعروضة، التي ترتدي لباساً من تصميم «بالنثياغا»، من تشكيلة أزيائه الربيعية، كانت تجلسُ على كرسي آلي متحرك وتتحدث مع ضابط الشرطة القضائية، الذي يرتدي لباساً من تصميم «أرماني»، من تشكيلة أزيائه الشتوية، بلحية ثلاثة أيام، حول نوعية وحدة الإنتاج الفني المعاصر، وهو ما رد عليه المفتش: «أتعلمين؟ الجريمة العنيفة لم تتزايد، فقط ازدادت حدة العنف، يمكنك أن ترجعي إلى الإحصائيات...».
انطلق العرض عند منتصف الليل، كما كان متوقعاً. استبدل المفتش مكانه بمكان الفنانة، التي نهضت من كرسيها المتحرك، الذي أوسعته السيدة الوكيلة ضرباً.
مفتتناً، كان الجمهور يصفق، وسُمعت تعاليق من قبيل: «لم أحضر افتتاحاً بهذه الروعة، إننا نرى هنا أيضاً جدّة وألق الأعمال المعروضة»، أو، «لم أكن أعرف أن السيد المفتش يقوم بعروض»، أو أيضاً «نفهم لماذا ازدادت حدة الجريمة العنيفة، ولم تزدد نوعيتها».

3.

لنلاحظ أن الجثة، بدون عضو تناسلي الآن، وحسب مؤشرات الفحص التي تم جمعها في القاعة، ربما كان لها عضو لحظات قبل أن تحدث الوفاة.
فعلاً، المكان عبارة عن ماخور، والجثة من الجنس الذكوري، بالمعنى غير اللغوي للكلمة، وكان في سن الاستمتاع بالمضاجعة، ما يجعل من المنطقي أن نستنتج، على الأقل في هذه اللحظة الخاصة بمعاينة المؤشرات، وأمام مكان تواجد الجسد وموقعه في هذا الظرف، أنه كان له عضو تناسلي قبل أن يحصل، نظراً إلى رفق الموت وسخائه، على وضعية لا جنسي التي ينالها الجميع بشكل متساو.
حاولت صاحبة الماخور مُلحّة أن تنفي أن الجثة كان لها عضو تناسلي قبل لحظات، متحججة بأن ذلك أمر مستحيل، ما دام أن الجثث لا جنس لها، كما نعرف جميعاً. وقد كانت حججها لا تخلو من أسلوب وقوة إقناع، أبانت من خلالها عن معرفة ميدانية وتجريبية بالفلسفة، تليق بأحدث التيارات البرغماتية، بل، من يدري، ربما حتى بفتغانستاين.
ومع ذلك، فقد صرح محاورُها، الذي نُسي اسمه في حوليات التاريخ، رغم أنه كان معروفاً وقتها بأنه من أتباع سبينوزا، أن الجسم، وإن كان واحداً، يمكن أن يتَفَعَّل، ولو في شكل جثة، في وضع خنثوي، ويكون له، بالتالي، عضو تناسلي.

جوزي مارْيو سيلْفا: الأرنب
عندما كان ما زال ينعم بحياة كريمة، كان منظمو ملتقيات ألعاب القوى يدفعون له أموالاً مقابل أن يحث على المزيد من الجهد عَدّاءً معيناً، يكون قاب قوسين أو أدنى من تحقيق رقم قياسي جديد.
بعد عدة سنين وأحداث، عندما فرّ بعد القيام بعملية اقتحام، شعر بالطلقات النارية تلامس أذنيه وبنَفَس كلاب حقيقية تلاحقه في غضب مجنون.
في كلتا المناسبتين، كانت رجلاه تستسلمان للإفراط المحتوم، للحماس الذي لا ينظر إلى الوراء ويعجّل بالانسحاب أو الكارثة.

روي مانْويل أمارال: غْريغورْ سامْسا
ذات يوم، قرر غريغور سامسا أن يزور غجرية ذاع صيتها لتقرأ له الطالع.
وضعت الغجرية أصابعها على كف يده، وبعد مقدمة قصيرة من «همم» و«هااام»، قالت:
ـ سيدي العزيز، كن على استعداد. بعد قليل، ستنمو في جسمك خياشيم وزعانف.
قدّر غريغور سامسا دقة كلمات الغجرية وحكمتها، ثم أدى وانصرف.
بعد ذلك، حاول أن يستعيد ماله. لكن الغجرية أخبرتْهُ عن طريق كاتبتها أنها لا تتحدث مع الحشرات.

دافيد ماشَّادو: قصة
إنْ اشتدَّ الحرُّ فأحسنُ ما ينبغي أن تقوم به هو أن تصطادَ غيمةً وتأخذها إلى داخل البيت. ربما يفوح الجو بعطر الربيع وبشيء من الحظ ستحلق خطاطيف بين غرفتك والمطبخ. احرص على ألا تكون غيمة سوداء جداً لأنه قد تندلع عاصفة فوق السرير وقت ذهابكَ للنوم.

فِرْنانْدو دينيشْ: سنُّ الرُّشد
دخل إلى مكتبة وفكّر: القراءة شيء جيد. لكن ماذا سأقرأ؟ كيف يمكن اختيار الكتاب المناسب مع كل هذا العرض؟ قرر: سأحصر اختياري في كُتّاب قارتي. في كُتّاب بلدي. في كل الكُتّاب الأحياء. في الكتب التي نُشرت هذه السنة، هذا الشهر، في تلك التي نُشرت اليوم بالضبط. حينئذ، توجه نحو موظفة المكتبة وسألها: أريد كتاباً لكاتب من البلد، ما زال حياً يرزق، نُشر اليوم بالضبط. نظرت إليها الفتاة شزراً، وتظاهرت بالقيام ببحث في الحاسوب، ومن دون أي قناعة أجابته، أخيراً، بعبارة اشمئزاز: يؤسفني أن أخبرك أنه، اليوم بالضبط، لم يُنشر أي كتاب. خرج فارغ اليدين مزهواً بنفسه، ومستعداً ليؤلف كتابه الخاص. أحسّ أنّ عالماً من القُراء ينتظرونه.

فِرْنانْدو إستيفِشْ بينْتو: ضربة قاضية
1. سيأتي يوم يصبح فيه الجنس حافزاً ومنعشاً مثل زيارة الكنيسة، حيث الجنس الروحي هو صلاة الحواس. لكن من يمتنعون عن الجماع، بإمكانهم أن يمارسوا جنس الروح. بالنسبة إلى هؤلاء، ليس الجسد هو خبز الذبيحة، بل القداس.
2. يبدو للوهلة الأولى أنّ الحب هو فحص يقوم به طبيب العيون للقلب. لكني لا أريد أن أقول إن القلب بحاجة إلى نظارات طبية.
3. عندما تشرق الشمس يصبح الظل، فعلاً، من حق الجميع.
4. سألتني صديقة لم أرها منذ مدة:
ـ ما هو اسم آخر كتاب ألفته؟
ـ جنس وسط الأكاذيب.
ـ آه! أعرف كيف هو. لقد مررت بتلك التجربة.
5. ـ لديّ عزاء واحد في زواجي.
ـ ما هو؟
ـ إنني لا أتفاهم مع زوجتي، وأتفاهم مع كل النساء الأخريات.
ـ وزوجتك؟
ـ زوجتي هي المتضررة.
ـ كيف ذلك؟
ـ تكره الرجال وهي مجبرة على العيش معي.