كيف يمكن للمرء أن يثبت هويته إن لم يكن بوسع الانتماء الجغرافي، والبُعد الزمني/ التاريخي، واللغة واللهجة والعادات وثقافة البلد، أن تمنحه إياها؟ هل امتلاك الأوراق الرسمية هو الشيء الوحيد الذي يحدّد حقيقة انتماء الفرد إلى وطن أصلي أو بديل؟ ماذا عن ملايين البشر في العالم من فاقدي الأوراق الثبوتية، والمنفيين خارج أوطانهم، والذين أُسقطت جنسيتهم رغماً عن إرادتهم، والباحثين عن ملجأ خارج أرضهم؟ قضايا كثيرة تجمعها أزمة الوجود التي تحوّل الفرد إلى «شبح» أو شخص غير مرئي بالنسبة إلى الدول والمؤسسات الرسمية، وتأتي معاناة الـ«بِدُون» في الخليج ضمن هذه القضايا الحساسة. يتناول كتاب «عديمو الجنسية في الخليج: الهجرة والجنسية والمجتمع في الكويت» (الممتد على 483 صفحة من القطع المتوسط) للباحثة الفرنسية كلير بوغراند، قصة «البدون» (اختصاراً لـِ «بدون جنسية») في الكويت منذ نشأتهم إلى احتجاجاتهم الأخيرة قبل سنوات عدّة.

الكتاب الصادر عن «منشورات تكوين» (ترجمة عبدالوهاب سليمان)، يحمل بين طياته ستة فصول رئيسة يضم كل منها أبواباً تفصيلية متعددة، بالإضافة إلى مقدمة وتوطئة وخاتمة. في مقدمة الكتاب، تختار الأكاديمية الكويتية العنود الشارخ أن تروي باختصار حادثة محزنة حصلت معها شخصياً حين رفضت تكليف منظمة بريطانية غير حكومية بالتحقّق من هوية ولهجة أحد الكويتيين الـ«بِدُونْ» الذي طلب اللجوء إلى المملكة. وتعلّق الشارخ بالقول: «هذا التحقق من كويتية المرء قولٌ مستهلك يومياً، في البلد التي غادرها البدون- عديمو الجنسية الذين ولدوا وأقاموا في الكويت ويطالبون بالمواطنة، لكنهم لا يملكون الوثائق المؤهلة لإثبات هوياتهم؛ يمكن التذرع بهذه الحجة لصلتها بالمنظور الأمني لا في المملكة المتحدة فحسب، بل في الكويت أيضاً». وتشير الباحثة في «معهد لندن للشرق الأوسط» إلى ارتباط قضية البدون بالطبقية والاقتصاد الاجتماعي للبلد «فقصة السكان البدون واحدة من عوائد الدولة الريعية، حيث تستند الهوية الوطنية إلى المحسوبية العرقية، وانهيار نظام التجنّس الفعّال، وأصبح منح المواطنة مع سيطرة سياسات الدولة الريعية- في فترة بناء دولة ما بعد الاستقلال – امتيازاً يُمنح من قِبل الطبقة الحاكمة أكثر منه إحداثاً لدور المواطن».
في الفصل الأول «من الخفاء إلى الوهم: من هم البدون؟»، تعرض الكاتبة كلير بوغراند تعريف مصطلح «البدون»، أو «أناس بلا وثائق» بحسب الترجمة الإنكليزية، فهم «يشكّلون مجموعة من الناس الذين يدّعون أحقيّتهم بالجنسية الكويتية، مستندين إلى عدم ارتباطهم بدول أخرى، بينما تعتبرهم دولة الكويت مقيمين بصورة قانونية على أراضيها. يحتل البدون فجوات الطبقات المتعددة والمركّبة للمجتمع الكويتي بوصفهم مجموعة أشباح؛ فهم غير مرئيين في القوائم الرسمية للدول، غير مرئيّين لدى الجميع في الكويت عدا المطّلعين». ليس هناك ما يميّز البدون عن المواطنين الكويتيين في اللباس واللهجة؛ فهم يتحدثون اللهجة الكويتية -وإن تخللتها نبرات قبلية- ويرتدون الدشداشة والغترة والعقال، ويرجع تاريخهم إلى الصحراء. تميّز الأكاديمية المحاضِرة في جامعة «إكستر» البريطانية، قضية البدون عن بقية التصنيفات الأخرى في المجتمع الكويتي وفقاً لقانون الجنسية، فالكويتيون أساساً هم «الذين أثبتوا إقامتهم المستمرة في الإمارة منذ عام 1920، وهو تاريخ رمزي يشير إلى معركة الجهراء، حيث تم التصدي للإخوان، القبائل المجنّدة من نجد والمحارِبة لغير التابعين للوهابية...». أما العرب والأجانب الذين استقروا في الكويت بين عامَي 1930 و1945 «فقد مُنِحوا الجنسية بالتجنيس، ومع ذلك فإنّهم محرومون من الحقوق السياسية»، بينما يُطلق على المنحدرين من ميناء الكويت في عهد ما قبل النفط، الذين أثبتوا إقامتهم المستمرة في مطلع ستينيات القرن الماضي مصطلح «الحَضَر». تعتبر الدولة أنّ البدون «قدموا إلى البلاد متأخرين بعد استكمال إجراءات منح الجنسية في عام 1965».
تستند الباحثة في أطروحتها إلى مفهوم «الهوامش» عند الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930-2004) الذي قدمه في كتابه «هوامش الفلسفة» Margins of philosophy (1972)، فالهوامش تتظاهر بخطاب متجانس فريد من نوعه، لكنّها في الوقت عينه تشكّل نصاً فلسفياً آخر، «يُحدث صدعاً» ويُعدّ «مكاناً للرؤية النقدية». تُسقط الباحثة منظور دريدا على السردية الرسمية لـِ«المجتمعات المتجانسة التي تعيش بسلامٍ في ظل القيادة الحكيمة للآباء القادة» لتطرح فكرة أنّ وجود معارضات بين «المواطنين أصحاب الامتيازات والمواطنين المحرومين» وأخرى بين المواطنين والأجانب في البلد، وقضية البدون، ما هي إلا إشارة إلى «الفشل في تحقيق الرؤية الأبوية التي يقوم عليها العقد الاجتماعي». تقدّم هذه الهوامش الكويتية «رؤية متجددة للواقع الاجتماعي في الإمارة، واقعاً متعدد الأوجه ومتعدد الطبقات ومليئاً بالصراعات».
إذاً تسعى الكاتبة إلى تقديم سردية جديدة تتميّز بكونها «مضادة لسردية الدولة الكويتية التي لطالما حطَت من البدون، واستغلت مواردها الإعلامية للقدح فيهم وتجريمهم». تستخدم الباحثة في دراستها هذه نوعين من المصادر: مواد أرشيفية مكتوبة وهي مجموعة مقالات ونصوص صحافية محفوظة في «مركز المعلومات والدراسات» في صحيفة القبس، ومواد أخرى عبارة عن مقابلات مع أشخاص من البدون ومناصريهم، بالإضافة إلى بعض الصور التي تظهر المساكن الشعبية للبدون.
يعرض الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «الأسس العابرة للأوطان في الإمارة الكويتية»، الخلفية التاريخية للدولة الوطنية قبل اكتشاف النفط، إذ إنّ «التراتبية الاجتماعية الحالية قائمة على سنوات استقرار سكان مختلفين في الكويت بأوقات مختلفة». بحسب الكتاب، «استمد حكام الخليج نفوذهم السياسي وشرعيتهم من سيطرتهم على غالبية سكان المناطق الساحلية الحضرية بقدر ما استُمدّت من سيطرتهم على القبائل المرتحلة من الداخل». وكانت السياسة القبلية هي السياسة العليا وكان من الوجاهة الانتماء إلى هذه القبائل، سواء الجنوبية السنية أو الشمالية «التي تحوّلت إلى المذهب الشيعي الذي انتشر في العراق في القرن التاسع عشر»، فكان البلد قائماً على تعايش وشراكة بين الميناء (المدينة) والصحراء. يقوم الفصل الثالث المعنون «من بدو يقطنون العشيش إلى مقيمين بصورة غير قانونية» على مناقشة نشوء الميثاق الاجتماعي الكويتي بالنظر إلى الممارسات والإجراءات التي خوّلت منح الجنسية الجديدة. وفق القانون الكويتي، «يعرّف الكويتيون أصلاً على أنهم بمقدورهم إثبات شهادة وجودهم المستمر في أراضي الإمارة منذ عام 1920»، لكنّ الباحثة توضح أنّه للمفارقة، فالإقليم الوطني لم تُرسم حدوده الدولية إلا بعد عامين تاليَين. عدّلت الدولة القانون المتعلّق بالجنسية مرات عديدة و«أصبحت الشروط أكثر صرامة وأضيفت شروط جديدة من بينها عدد المتجنّسين. بموجب المادة الرابعة، كان مقتصراً على 50 شخصاً سنوياً، لكن جميع أحكام القانون «لم تكن مصممة لقضية البدون ولم تنطبق عليها، باستثناء التعديل على المادة الخامسة وفق القانون رقم 41 لعام 1972». صحيح أنّ هذه الأحكام أجازت منح الجنسية الكويتية للأبناء عديمي الجنسية المولودين في الكويت لحين بلوغهم سن الرشد، لكنّها للأسف أُلغيت بحسب قانون رقم 100 (1980). انتشرت «العشيش»، أي المساكن غير الرسمية في الكويت، «في أواخر الخمسينيات بعد اكتشاف النفط، حين بدأ البدو في تغيير مساكنهم التقليدية من خيام إلى أكواخ» بنتها شركة النفط الكويتية KOC في حين فضّل بعضهم «العيش في خيمهم السوداء التقليدية (بيوت الشعر) في محيط المنطقة المبنية»، ووصلت مدن العشيش إلى 18 حتى عام 1975. وجرى تجنيس جماعي لعدد كبير من البدو إبان تهديد العراق للكويت حتى ينخرطوا في القوات المسلّحة.
منهم في الشعر والرواية والصحافة محمد النبهان وناصر الظفيري وسعدية مفرح


أما الفصل الرابع «صناعة انعدام القانونية»، فإنّه ينظر إلى سطوة الدولة بوصفها «عنفاً إدارياً» يقوم على استغلال «كل الوسائل الإدارية في سبيل نزع شرعية المطالبة بالمواطنة من قبل أي شخص لديه أدنى شعور باستحقاق الجنسية» حتى وصل الأمر إلى إعلان وزارة الداخلية (وفق ما جاء في الكتاب) عن تأمين/ شراء «جنسيات اقتصادية من جزر القمر»، يصبح بموجبها البدون «مقيمين أجانب في الإمارة، ويحصلون على حق الإقامة من دون رسوم، إضافة إلى جميع المميزات الممنوحة من الدولة والمتمثلة في مجانية التعليم والصحة والتوظيف». فُضحت الخطة حين «رفض البرلمان القمري تمرير أول قانون بمنح الجنسية الاقتصادية للبدون في الخليج». كما يغطي هذا الفصل استراتيجيات التكيّف وفق وجهة نظر البدون «الذين يقبعون في أسفل الهرم الاجتماعي الكويتي»، فهم يعتاشون من عملهم في بيع المنتجات الاستهلاكية المستعملة التي يتخلى عنها الكويتيون «مثل الإلكترونيات والأجهزة المنزلية والسيارات»، فيعيدون بيعها للمغتربين. منهم من يعمل في وظيفة مكتبية متواضعة، وبرز منهم في الشعر والرواية والصحافة مثل محمد النبهان وناصر الظفيري وسعدية مفرح.
يغطي الفصلَان الأخيرَان «ظهور قضية البدون: المناصرون والمعارضون» و«حراك غير الموثقين في إمارة نفطية»، نشوء الحراك من أجل مشكلة البدون وكيفية تطورها إلى قضية، ثم مناقشة الإطار النظري للمهاجرين من دون أوراق ثبوتية بهدف فهم احتجاجات البدون في شباط 2011. «ظهرت قضية البدون على الساحة الدولية للمرة الأولى منذ 30 عاماً» وتعتبر أنّها تمسّ «العلاقات المتوترة بين الكويت وجارتَيها القويتَين السعودية والعراق»، نسبة إلى «معركة الجهراء» مع السعودية، والغزو العراقي للكويت. وفي عام 2001، تجمّع البدون أمام مسجد الإمام الشعبي هاتفين: «إلى متى بدون؟» و«كويتيون، كويتيون». ثم نظموا لجنة شعبية في عام 2008 وشكلوا جمعيات غير مرخّصة، وعملت «لجنة الكويتيين البدون» على إصدار شهادات ميلاد وعقود زواج. تنتقل الباحثة إلى عام 2011 لتقول بأنّ أحداث مصر وسقوط نظام حسني مبارك، واندلاع الانتفاضتَين الليبية والبحرينية، أعادت الحماس إلى البدون للمطالبة بالجنسية، لكن تم قمع التظاهرات في العامين التاليَين.
في الختام، يبقى البدون غريبين في وطنهم، لكنهم يشكلون أحد «الهوامش» في البلد التي فتحت باب النقد تجاه السردية الرسمية. إنّهم يعاندون الواقع الذي فُرض عليهم منذ عقود من الزمن، عبر تمسّكهم بقضيتهم ومقاومتهم لكل محاولات طمس هويتهم وانتمائهم للكويت، البلد الذي يحملون ثقافته ولهجته. ويغطي هذا الكتاب جانباً من قصتهم وهذه السردية، ويعتبر مادة تفصيلية حول القضية التي بقيَت مهمّشة لعقود، وإن تناولتها بعض المواد الصحافية القصيرة.