تبتكر لمياء المقدم في كتابها «قصائد العمى» (منشورات المتوسط) فضاءً شعرياً يتجنّب السيولة اللفظية والبلاغة والحدس، نحو خيارات أخرى لطالما أهملها الآخرون أو تعاملوا معها على أنها خارج عناية الشعر ومقاصده الجمالية، لكن الشاعرة التونسية المقيمة في هولندا، وجدت أغراضاً شعرية يمكن استثمارها بقليل من الانتباه، أو ما يمكن وضعه في خانة «الشعر والتجربة » وفقاً لمقترح أرشبالد ماكليش، وهو ما يردم المسافة بين عمل المخيّلة وطراز العيش، باستدعاء ما هو يومي وعادي في حياة الكائن بوصفه جوهر الكتابة ومبتغاها. سوف تكتب الحياة اليومية انشغالاتها لتشكّل شعرية التجربة، فتحضر الثلّاجة وصفير الغسّالة وحبل الغسيل والطماطم، ليس كضيوف طارئين على مائدة الشعر، وإنما ككائنات مشعّة تنطوي على مقدرة عالية في حمل القصيدة إلى علوٍ شاهق بملاط متين، ومرايا عاكسة. وتالياً فإن الأشياء هي التي تحدّق بك لا أنت، فتتحوّل بتحديقة خاطفة إلى متن شعري «الغبار في كل مكان، صحن القطّة فارغ، النوافذ مضببة، والملابس مكوّمة في الممرّ ». رهان من هذا النوع في تأثيث القصيدة، يضع صاحبة «في الزمن وخارجه» حيال تحدٍّ صعب، اختارته بنفسها، متكئة على مخزون حياتي لا يحتاج إلى تقليب عميق لحراثته، وفي الوقت نفسه يصعب صقله، لفرط عريّه وافتقاده الأسباب الوجيهة لوضعه في خانة الشعر. إلا أن لمياء المقدم تمعن في استثمار ما يحدث لها وحولها بالتقاط ما ليس ذهباً وتحويله إلى معدن نفيس: «لا أحد يضيع في حديقته، وإن ضاع ستجده الأحراش الميتة، تُمسك بيده وتُعيده إلى البيت» تقول.


«كتابة الغرق» هذه، والقصائد التي تشبه «التقاط الأنفاس» تخضع لاشتراطات خفية في تحسين تصديرها إلى الواجهة، كأن الشعر لا يُكتب إلا هكذا، ينمو في الهوامش، في الممرّ تتكوّم الملابس، وليس الورود. هناك ما يحتاج إلى غسيل وكيّ في الشعر أيضاً، بما يوازي اضطرابات العيش، بالتأكيد على هجنة سردية نافرة، تنهض على تخوم السيرة. إذ تستدرج إلى فضاء النصّ مفردات لا تنتمي إلى المعجم الشعري، ولكن بحركة ما، تمنحها بصيرةً ثاقبة بعراك محتدم يعمل بجدّ على إضفاء حياة إضافية للعادي ومنحه بريقاً مباغتاً: «يوماً ستأتي يد أخيرة لرفع الضمادة، تتفقّد الجرح، وتدقّ الأجراس كلها التي ظلّت في الداخل ».
جملة من نوع «الكلام ثوب قصير، لا يستر الركبتَيْن»، لا يمكن الإفلات منها بسهولة، نظراً إلى إحالاتها الحسيّة والفكرية المتعددة، ومعنى الشعر نفسه: «الركبتان تجاوزهما الشعر ظناً منه أنهما لا تصلحان للتغني كالعينين والنهدين والوجنتين والردفين، لكن انظري سيدتي لهذا النص، أرجوك انظري. ألا تجدين أنه يستقيم ويعرج، يركض ويسقط، ينحني ويتعثر ويستبق؟ أليس هذا النص في حد ذاته ركبتين؟». هكذا تواجه لمياء المقدم الانسداد الشعري الذي أصاب تجارب كثيرة مستقرة بالإفلات مما هو مكرّر نحو مناطق بكر، وخلخلة الكتلة هندسياً تبعاً للمعايشة، بفحص أفق اليومي من جهةٍ، وامتحان اللغة باستيعاب كل ما يبدو ليس شعراً من جهةٍ ثانية، وتالياً، فإنّ هذه الهجنة التخييلية تذهب لمصلحة الذات في متاهتها وصعوبة توثيق حركتها وترحالها من فضاء إلى آخر بانتقالات مضبوطة لا تحتمل الطيش العاطفي العابر. تقول مفسّرة أسباب وظروف كتابة هذه النصوص: «ولدت هذه النصوص ومعها أشغال الصيانة والترميم قبل يوم واحد من عودة رجل أحبّه
تهدينا نصوصاً متفرّدة، بالكاد نجد مثيلاً لها في مائدة الشعر اليوم

. أمي كانت تقول: تنظيف البيوت قبل عودة الغائب علامة على الحب». أشغال الصيانة والترميم إذاً، لا تخص المكان فقط، إنما النصوص نفسها، تلك الارتطامات العالية، عماء الآخرين عن الجزئيات المهملة: «أحدثكم عن عشائي البسيط ليس لأقول إنني وحيدة ومهملة، إن الملح يتحول أحياناً إلى رمل مؤلم تحت الأسنان، بل فقط لأقول إنني أرى». هكذا تزاوج صاحبة «بطعم الفاكهة الشتوية» بين الألم الشخصي ومخاض ولادة القصيدة في مشغل مفتوح يستقطب التجاذبات الحسيّة والمتروك جانباً، وصهرهما في مرجلٍ واحد.
«أحببت المشي من أجل الجسد، وأحببت الركض من أجل المخيلة التي أنجبته»، ثم تواصل المشي والنظر والسمع في حركة ودوران وتأمل، إلى أن ترمي أحمالها على هيئة يوميات لامرأة معطوبة «عندما فقدت عيناً واصلت البكاء بعين واحدة. البكاء بعين واحدة يدعو إلى الضحك أكثر مما يدعو إلى الشفقة. ثم من يشفق على الآخر: العين التي تبكي أم العين التي تتفرج؟». ومثلما تستدعي بريق أرضية المطبخ، وحواف الخزانة المتآكلة، والأعمى خلف البيانو الضخم في محطة القطار، تهدينا نصوصاً متفرّدة، بالكاد نجد مثيلاً لها في مائدة الشعر اليوم.