وجبة دسمة من الروايات المنتمية إلى الجغرافيا المترامية للعالم العربي، تحضر على مائدة «الجائزة العالمية للرواية العربية» (بوكر العربية) هذا العام، من تخوم صحراء الأزواد في المثلّث الحدودي بين مالي والجزائر وموريتانيا، وصولاً إلى قرية نائية في جبال سلطنة عمان، ومروراً بقرية متخيّلة للاجئين على الضفة الأخرى من الأطلسي، تشتبك جغرافيا السرد بالتاريخ الشائك للإنسان العربي الواقع بين مطرقة الديكتاتوريات وسندان التخلف الاجتماعي والمذهبي والثقافي، وبيع الأنظمة للأحلام الزائفة لكثير من المحبطين أو الباحثين عن الثورة والمعنى، ناهيك بـ«ثوراتها الثقافية» التي قضت على موزاييك التنوع والتفاعل في المجتمعات المختلطة التي كانت يوماً ما قابلة لكوسموبوليتانية ثقافية واجتماعية تصهر الأقليات في النسيج الوطني الكبير كما في ليبيا ما قبل القذافي، إضافة إلى قضايا المهاجرين الذين يكتشف العديد منهم أنهم بهروبهم إلى «بلاد الشمس المشرقة»، لا يعثرون إلا على غروب أحلامهم وآمالهم. تحضر كذلك هموم الأقليات ورواياتها لتاريخ القمع والتهجير والمآسي عبر الأدب الهارب من الرواية الرسمية وخطب المنتصرين: ست روايات تتنافس هذا العام في القائمة القصيرة للجائزة التي يُعلن الفائز بها غداً الأحد في أبو ظبي. نضيء هنا على عوالم هذه الروايات وحبكتها وما تناولته من قضايا شائكة.
من سلسلة «انا بغداد» للفنان العراقي إياد القاضي


حجر السعادة ـــــ أزهر جرجيس
دار الرافدين (بغداد/ بيروت)

«لقد انزلق ريمون في النهر وغرق، فتوقف العراك وعافت المخالب لحم الفريسة. قفزتُ خلفه. لم أفكّر حينها بأنّي لا أجيد السباحة بما يكفي لإنقاذ غريب، فعند الفاجعة يغدو التفكير ضرباً من البطر. رميت نفسي في الماء، وبدلاً من إنقاذ أخي، غرقنا معاً. وثب خلفنا شاب كان يمرّ قريباً من الجرف، أمسك بي وجذبني خارج الماء، ثم عاد لإتمام المهمة. كان سهلاً على شاب بالغ إنقاذ طفل صغير من الغرق، إلا أنّ للقدر أحكامه كما يبدو، فقد اختفى الطفل تماماً وغاب عن الأنظار. جذبه النهر قبل أن تصل إليه يد المنقذ النبيل! اجتاحني موج الذهول وأنا أشهد غرق أخي. سقطت ونهضت، ثم سقطت ونهضت صارخاً بأصوات لم يفهمها أحد من حولي. كنت أردّد: «ريمون... ريمون... ريمون...» لكنهم لا يفهمون! رأيت الشاب يخرج من دون أخي، لطمت وجهي وقفزت في النهر ثانية، فأخرجني ليقول: «كفى، كفى، لقد غرق أخوك، لقد غرق»: في هذه الرواية، يستدرجنا الروائي العراقي أزهر جرجيس لتعقّب حياة مصوّر فوتوغرافي مغمور، حلمه العيش بسلام والموت بلا ضجيج. كمال، المصوّر الذي يحمل كاميرته يجوب الأسواق والأزقة العتيقة، مؤرّخاً حياة الناس والمدينة، يجد نفسه ذات يوم متورّطاً مع عصابة مسلّحة، ما يثير في قلبه الفزع ويقلب حياته رأساً على عقب. تسير الأحداث وتتصاعد بطريقة دراماتيكية بأسلوب السرد المشوّق الذي اشتهر به صاحب «النوم في حقل الكرز» ويحضر السلاح الكاتم محاولاً وضع نهاية منطقية لرحلة المغلوب على أمرهم. في عالم الكوميديا السوداء الذي يتقنه جرجيس، يبدو هذا العمل المرشح لـ«بوكر» رحلةً من العذابات والسعادات التي تبدأ بالعثور على حجر صغير بين الحشائش في بستان الجنّ في الموصل، ثم الوقوف عند جسر الشهداء في بغداد حيث ذبول وجه دجلة وذكرى غرق الأخ. رواية محكمة تفتق جرح الذكريات وتخيط بالتهكم مرارة الأسى في بلاد لا تستطيع أن تنجو من كربلائها المستمرة وكتابة سجلّ أحزانها الكثيرة بالأدب حيث يسهم «التاريخ الصغير» والقصص الشخصية في رواية قد تكون أقرب إلى ما كان من حزن وأسى «فوق بلاد السواد».

تغريبة القافر ـــــ زهران القاسمي
دار مسكيلياني (الإمارات)

«فقد إحساسه بالأشياء من حوله، تحوّل فجأة إلى إعصار هادر من الغضب، رفع مطرقته وهوى بها على الصخرة، وعاود ذلك مراراً وتكراراً حتى ارتجّ المكان، وبدأ الغبار يتصاعد من الحجارة المتساقطة. تتالت الضربات، وتحوّل جسده كلّه إلى يدين لا همّ لهما إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه كأنه يضرب كلّ ما عاشه مُذْ كان طفلاً، يهوي بالمطرقة على سجنه، على غيابه، على اليأس من مغادرته تلك العتمة، على شوقه الجارف إلى زوجته، على الهدير الذي يصمّ أذنيه ويمنعه من سماع أي شيء سواه، على العزلة التي تمتدّ وتمتدّ، وعلى الفكرة التي لا يرغب في مواجهتها...لم يكن يعلم أنّ جسد الصخرة يتداعى أمامه، كان غائباً في غضبه، متّحداً مع مطرقته في هدم كلّ الجدران التي واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطِش... تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء»: يبدو كأن الماء هو بطل رواية «تغريبة القافر» للعماني زهران القاسمي، الماء بكل رمزيته الأسطورية والحضارية وارتباط موطن الكاتب العماني به من خلال نظام قديم في توفير الماء للشرب والفلاحة وهو نظام الأفلاج، الذي يُعتبر نظاماً اجتماعياً معقّداً تدخل فيه التراتبية الاجتماعية والطبقية. تتماهى رمزية الماء هذه مع بطل الرواية، «القافر» الذي يلعب دور مقتفي أثر الماء في الينابيع الجوفية، بتكليف من القرى الصغيرة التي تخاف الموت من العطش، هو الذي صاغ الماء قدره منذ الولادة، تحديداً منذ مشهد غرق أمه الذي يفتتح به القاسمي السرد، مروراً بوالده الذي ينهار عليه سقف ويُطمر تحت أحد الأفلاج، إلى التأملات والعوالم الداخلية «المائية» التي يصوغها البطل بما يذكّرنا بعوالم باشلار الساحرة في «الماء والأحلام»: إنها رواية تنطلق من التاريخ المحلي لبلد ضارب في أساطيره وتنوع ثقافاته ووقوعه على نقطة تقاطع بين حضارات وطرق مواصلات وقارات عديدة، وتحمل وصفة كل أدب ناجح ينطلق من بيئته ليصل إلى العالمية. كما تلعب المرأة دوراً طليعياً في «تغريبة القافر» فكما يقول القاسمي في حوار صحافي: «فالقافر حتى يخرج إلى نور الحياة كان ذلك بسبب جرأة امرأة، والمرأة التي اعتنت به وأرضعته أيضاً، ثم المرأة التي ساقه الحب إليها لتكون وطنه الكبير».

منّا: قيامة شتات الصحراء – الصديق حاج أحمد
دار الدواية للنشر والتوزيع (الجزائر)

«مرّ زمن ليس بالقليل... الخيمة بمن فيها، غاصّة في حيرة طلاق خيامها، وبحيرة موطن طفولتها، الوقت حينها منتصف النهار، عنّ للمبروكة أن تنهض لجلب حبوب «مندغا» المجفّفة، تحت شجيرات «إيزّا» القريبة من الخيمة، علّها تنوّم بها أرق الأمعاء الشاكية. عاود عثمان الارتكاز على وسادته كالعادة، وبلا وعي بدأ في أوراده وتسابيح سيوره الجلدية، وما إن تخطّت علامة البركة مدخل الخيمة المشرّع، حتى وقع نظرها على حليبها الهالك، أحسّت بدوّار بادئ الأمر، عاودت تقطيب عينيها، علّها مخطئة في لحظها وتقديرها، أعطت الفرصة لعلامة انتحاب المرأة وعرس حزنها، وضعت يديها على رأسها وطفقت تولول... أسلمت رأسها طائعة للزفاف المعلن وزغاريد طبوله المنتحبة»: إنها رواية الصحراء وجفاف الأرض والطبيعة والأحلام الكبرى التي يكتبها الجزائري الصدّيق حاج أحمد في «منّا: قيامة شتات الصحراء» متخذاً من صحراء الأزواد في شمال مالي فضاءً للسرد، من لوعة الشيوخ في استذكارهم للجفاف الكبير الذي أصاب مضاربهم عام 1973 وما أحدثه من فجائع، غيّرت مسار الصحراء الكبرى، ما أدى بالغالبية الناجية من الموت، بالفرار نحو دول الجوار، بعد هلاك مواشيهم. ثم لا يلبث صاحب «كاماراد... رفيق الحيف والضياع» أن ينتقل من الجغرافيا ومروياتها وتقاليدها إلى رواية التاريخ السياسي القريب للمنطقة، «غير أن الذي استرعاني أكثر في تلك الهجرات، هو هجرة التوارق والعرب الحسّان إلى ليبيا، ومقامرتهم مع القذافي في سمكة إبريله، التي قدّمها لهم كطعم، في أمنية الوطن المفقود بالأزواد، ما جعله يفتح لهم معسكرات التدريب، ويوظّفهم في حروب بالوكالة في جنوب لبنان وتشاد، ليعودوا بعد ذلك خائبين بخفّي حنين، الأمر الذي دعاهم للقيام بثورة في شمال مالي بمدينة منكا سنة 1990، ومن ثمّة قيام حرب الأزواد، التي لا تزال قائمة إلى يوم الناس هذا»: تستعير الرواية صوت أحد اللاجئين الذي دوّن سيرته وسيرة ابنه على مخطوط متهالك عُثر عليه في صندوق، لتغوص في تفاصيل التحولات السياسية والثقافية الهامة في المنطقة من مالي وصولاً إلى معتقل أنصار في جنوب لبنان، أثناء الأربعين عاماً السابقة على سقوط القذافي، وما تخللها من آلام كثيرة وخيبات وآمال كاذبة «يحسبها الظمآن ماءً».

كونشيرتو قورينا إدواردو ــــ نجوى بن شتوان
منشورات تكوين ـ مرايا (الكويت)

«كنا نتسلل لنتأمّلها كيف تنام، واضعة أسنانها بجانبها على الكومودينو، مسدلة على قدميها منشفة للحيلولة دونهما ودون الكائنات غير المرئية التي تأتي في الليل لتأخذ أقدام النيام، تمشي بها واضعة مكانها الكوابيس والأحلام المزعجة. كنا نحفظ شكل المنشفة كي لا نمسّها بعد مغادرة تتي أتريا إلى سوسة. كما كنّا نربط كلامها أثناء النوم بأسنانها المنزوعة، ونومها ممدّدة على ظهرها، إلى أن يتأثّر كلّ من ينحدرون من إغريق قورينا وسوسة بالموتى الأزليّين الذين يشاركونهم المدينة نصفاً بنصف. إلا أنّ الموتى لا يشخرون، وتِتي أتريا يصل شخيرها إلى روما. كان أخي أيوب يحوك لنا قصصاً مخيفة عن بيت تِتي أتريا وعن البحر الذي غمر جزءاً من المدينة القديمة وسيغمر بيت جدّي لا محالة بعد مضي تِتي أتريا إلى ربّها، لعلّه في انتظار رحيلها ليفعل، فالبحر ليس ببعيد، لكنّه لن يتمدّد ليُغرق امرأة غارقة في الوحدة»: بعد «زراييب العبيد» (2016) التي وصلت إلى القائمة القصيرة عام 2017، ومسيرة روائية بدأت في «وبر الأحصنة» (2007)، و«مضمون برتقالي» (2008)، تطل الليبية نجوى بن شتوان في «كونشيرتو قورينا إدواردو»، عمل محكم يغوص في موزاييك المجتمع الليبي من خلال فتاة تنتمي إلى أقلية من المهاجرين اليونانيين القدامى لتقرأ على موشور تاريخ هذه العائلة الصغيرة، تاريخ المنطقة، وهجراتها وتحولاتها وتخريب ثقافاتها المتنوعة لفرض ثقافة «الأب القائد»، الذي تؤسس ثورته الثقافية ومجالسه الشعبية أيام حكم القذافي لطمس ومحو كل ما هو مختلف في الثقافة والسياسة وحتى البشر، إذ يموت والد البطلة في خضمّ تلك الثورة. كما تعرج الرواية على تصدّع المجتمع الليبي بعد سقوط الطاغية، وفترة الحرب الأهلية، وما بين القديم الذي لم يمت بعد، والجديد الذي لم يولد بعد... أهوال كثيرة تمرّ عليها بن شتوان في «كونشيرتو» مثل يهود ليبيا وقصة خروجهم أو طردهم سنوات الستينيات، والحرب الأهلية وانعكاساتها على النسيج الاجتماعي، ناهيك بتهريب الآثار والعبث بإرث ليبيا التاريخي.

أيام الشمس المشرقة ـــــ ميرال الطحاوي
دار العين للنشر (القاهرة)

«الشمس المشرقة» مجرد مستعمرة صغيرة، أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية مهجورة، يقولون إنّها كانت في السابق بيوتاً خشبية قميئة يسكن فيها عمّال مناجم النحاس التي نضبت، ثم رحل العمّال من زمن بعيد تاركين خلفهم بعض الوحدات السكنية الفقيرة، أو سلسلة من الأكواخ الصغيرة التي تتراقص في الفضاء الجبلي منفصلةً ومتقاربةً وكاشفةً لبعضها، ثم توسّعت المستعمرة البشرية مع الوقت وضمّت إليها غيرها من الأحياء والامتدادات السكنية التي تجاورت بين الهضاب الصحراوية وتحولت إلى محطة لعبور العمال المتسللين إلى المزارع الجبلية في الشمال. من تلك المستعمرة، تخرج حافلات عمّال النظافة وتعمير الحدائق كل صباح، تتسلّق ممرّات الجبل وتسير باتجاه التلال البعيدة حيث تنام منتجعات «الجنة الأبديَّة» عالية بين القمَم الجبلية، يحمل العمّال في طريقهم إليها أدوات تهذيب الأشجار، وماكينات قصّ الحشائش، وتقليم النخيل، وتزيين الحدائق. تخرج أيضاً إليها تلك الحافلات الصغيرة التي تحمل لافتات شركات النظافة «كلين هوم»، و«سوزانا كلين»، و«ماتيلدا وأخواتها لتنظيف البيوت». تمرّ الحافلات في مسارات محددة وطرق ومنعطفات منحوتة بين ممرات الجبال، تتسلق الممرات الجبلية الضيقة لتصل في النهاية إلى «الجنة الأبديَّة»، حيث تتراقص المنتجعات الجبلية البعيدة، وتتكشَّف ممرات القصور العالية، المترفة، التي يحتاج أصحابها إلى خدمات عاملات النظافة والأيدي العاملة باستمرار: إنها رواية الهجرة والهويات الممزقة التي تفتتحها وتنهيها ميرال طحاوي بحوادث مأساوية مثل انتحار شاب عربي وفتاة أفريقية بفعل عوامل القسوة والانسلاخ والاقتلاع من الجذور وتتخذ من قرية متخيّلة تُسمى «الشمس المشرقة»، التي تقع على الحدود الجنوبية الغربية لأميركا، وتشهد سواحلها بشكل يومي عمليات تهريب العمّال والمهاجرين غير الشرعيين. بين العوالم الاجتماعية والاقتصادية للمهرّبين والهجرة غير الشرعية، والحفر في الأسئلة الثقافية للفئة التي يحسدها العالقون في جحيم فقر الأوطان على عبورها إلى الضفّة الأخرى، تمنح صاحبة «الباذنجانة الزرقاء» في روايتها «أيام الشمس المشرقة» المرشّحة لـ«بوكر»، صوتاً للضائعين في البرزخ بين الـ«هنا» والـ«هناك»، حيث يضيع الصوت بين ظلم الأوطان وجهلها وديكتاتورياتها ومذابحها العرقية وصعوبة الاندماج في المجتمعات الجديدة بأحكامها المسبقة وصعود أصوات اليمين الفاشي والمتزمّت والعنصري فيها. بنحتها لشخصياتها وحفرها عميقاً في الذات الإنسانية المتمردة على واقعها والحالمة بغدٍ أفضل، واستحضار تراث البلاد الأصلية كسلاح يساعد بطلات شخصياتها في أزمتهنّ مع سلطة اللغة الغريبة للبلاد الجديدة، تضيف الروائية الحائزة «جائزة نجيب محفوظ للرواية» (2011) لَبِنَة أخرى إلى عمارة ما صار يُطلق عليه «أدب الهجرة» ويحتل مكاناً لا يمكن تجاهله على خريطة السرد العربي والأفريقي وحتى العالمي: «ستظل قضايا الحروب والهجرات والاضطهاد العرقي موضوعات كبرى يكتب عنها الجميع، لكنْ، لكل كاتب رؤية وطرح مختلفان. أعتقد أنّ التحدي الذي يواجه الكاتب هو كيف يخلق عالمه الخاص وكيف ينسج فنّياً مفردات ذلك العالم».

الأفق الأعلى ــــــ فاطمة عبد الحميد
دار مسكيلياني (الإمارات)

« تقولُ العبرةُ: عندما تهمّ بالتقاطِ حجرٍ من الأرضِ، فعليكَ أن تستعدّ لما ستجده تحتَهُ، وإذا لم تكن مستعدّاً لذلك، فلا تفكّر في التقاطه منذُ البَدْء. وعلى الرّغمِ مِنْ أنّ هذِهِ القاعدةَ الأرضيّةَ مألوفةٌ لدى الكثيرينَ، فإنّها تبقَى مُغيَّبةً عَنْ بعضِهم. وكذلكَ كانَ حالُ أمِّ سليمانَ، السيّدة حمدة، حينَ التقطتِ الحجَرَ المعنيَّ، وزوّجتْ ابنَها الوحيدَ واليتيمَ في سِنِّ الثّالثةَ عشْرةَ مِنْ فتاةٍ تكبُره بأحدَ عشر عاماً، وفيظَنِّها أنّها جاهزةٌ لما ستجدُهُ تحتَ ذاكَ الحجرِ، إلّا أنّها نالتْ من سُخريةِ الأقاربِ والجيرانِ قِسْمَتَها، وتحديداً مِنْ آباءِ الفتياتِ الصّغيراتِ الّذين امتنعُوا عنْ مُصاهرتِها، بنِظرةٍ متعاليةٍ، جعلتْها تعلمُ عِلْمَ اليقينِ، أنّ صِغَرَ الفتياتِ ما كان ليُشَكِّلَ سبباً يمنعُهم مِنْ تزويجِهِنَّ، لو أنّ لابنِها الوحيدِ جاهاً أو مالاً يُسانِدانِه. لقد أرادتِ المحافظةَ على السُّلالةِ، بتسْريعِ عَجَلةِ الزّمنِ، لكنّها، بعْدَ خمسةِ أشهرٍ فقط مِنْ تزويجِ ابنِها بابنةِ خالِها نبيلة، أُحْبِطتْ تماماً، وخارتْ قُواها مِنْ تكرارِ مُحاولاتِها اليائِسَةِ كلَّ مساءٍ، لإعادَةِ العريسِ الهاربِ مِنْ عَروسِهِ كيْ يلعَبَ كُرةَ القدَمِ معَ رفاقِه… إذْ ظلّتْ تجرُّهُ جرّاً ممسِكةً بأذْنهِ وكتِفهِ، وهي تُوبّخهُ بصَوْتٍ يلتفِتُ إليهِ العابِرون. في البدْءِ، يتبعُهُما أصدِقاؤُه القِصَارُ القامَةِ، وهم في الغالبِ مِنْ رفاقِ صَفِّهِ، غيْرَ أنَّ الحشُودَ تظلُّ في تزايُدٍ كلّما اقتربَ مِنْ بيتهِ، لتشْمَلَ طلبَةَ صُفُوفِ المدرسَةِ كلِّها، فضْلاً عَنْ إِخوتِهم الّذِينَ لم يلتَحِقُوا بالمدْرسَةِ بعْدُ، صارخِينَ خلفَهُ بهُتافٍ واحِدٍ: «سليمانْ، سليمانْ… يحردْ مِنْ بيتِ العِرسانْ». وحالما يصِلان، تقذِفُ بهِ أمُّهُ فَوْراً تُجاهَ غُرْفَةِ نوْمِهِ الّتي تتوسَّطُ البيتَ، وتفصِلُها عَنْ غُرفتِها غُرفةٌ ثانِيةٌ، أُعِدّتْ لاسْتِقبالِ الأحْفادِ، تَقذِفُهُ نَحْوَ الغُرفةِ وتَقذفُ في أُذنيْهِ الجملةَ المعهودةَ ذاتَها: «افْعَلْ ما يفْعَلُهُ الرِّجالُ… أفهِمْتني؟»: تختلط في «الأفق الأعلى» الجرأة بالكوميديا السوداء، إذ إن السعودية فاطمة عبد الحميد التي في جعبتها ثلاث روايات سابقة هي «حافة الفضّة» (2013)، «ة النسوة» (2016) و«الأفق الأعلى» (2022) تضع السرد على لسان عزرائيل، ملاك الموت، فيستأنس القارئ مباشرة ويروي نبذة عن أعمار من يقبض أرواحهم وردود أفعالهم حين تحين الساعة الموعودة، وبهذه الطريقة الذكية، تقحمنا عبد الحميد في عالم سليمان، أرمل في الخمسينيات من عمره، كانت قد أكرهته أمه على مغادرة عالم الطفولة غصباً من خلال الاقتران بامرأة تكبره بأكثر من عقد. في محاولة جريئة لكسر الصورة النمطية للهيمنة الذكورية في الشرق عامة والعالم العربي خاصة، تضع صاحبة «ة النسوة» سليمان طوال عمره تحت سطوة نساء بأدوار متعددة من الأم المتسلّطة والزوجة المفروضة عليه قسراً والجارة التي تتبدّى له من النافذة لتصبح بمثابة أوكسيجين الحب وسط عبثية الأقدار. بالإضاءة على مسائل اجتماعية كالزواج المبكر والعلاقات الجندرية، تحفر عبد الحميد عميقاً في البنية النفسية والثقافية للمجتمعات العربية ولا سيما الخليجية، وغربة المرء فيها، وسعيه إلى الإفلات منها عبر البراءة والدهشة والحب: «المنطق الهش لهذا العالم يقول إن كل شيء يتكوّن في سنوات الطفولة الأولى، ولم يكن سليمان سينجو من طفولته التي تعفّنت في داخله ما لم يعلنها على الملأ، وكان له أكثر من طريقة بالطبع... بناء بيوت من أعواد الكبريت، دهشته البريئة والدائمة بتفاصيل محبوبته كأنه يرى الأشياء للمرة الأولى، طريقة رميه للحلوى تجاه شباك جارته، الأسئلة التي لم يتوقف عن طرحها حتى مع أولاده، لأنه لا يملك كل الأجوبة كالكبار. حضرت تفاصيل عالم الطفولة هكذا ببساطة، لأنني كنت أكتب عن طفل كبير، أشعل النيران، ليس رغبة منه في الأذية، ولكن ليقول للعالم إنه وحيد».